د. سعد الدين إبراهيم

هذه هي المرة الثانية التي أصطحب فيها طلابي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وباحثي مركز ابن خلدون في رحلة ميدانية إلي الخطوط الأمامية للمواجهات السياسية المستعرة، ففي العام الماضي ذهبنا إلي فلسطين، حيث كانت المعركة السياسية الأولي بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وحركة التحرير الفلسطينية (فتح) قد حسمت لصالح الأولي، علي غير كل التوقعات،

ودخلت حكومة حماس الفتية في معركة أخري مع العالم، حيث أصرّت في حينه علي التمسك بنفس الشعارات والممارسات، التي دأبت عليها في مرحلة الكفاح المسلح بما في ذلك رفض الاتفاقات الدولية التي كانت السلطة الفلسطينية (فتح) قد وقعتها،

ومنها اتفاقية laquo;أوسلوraquo; (١٩٩٣)، التي انطوت علي اعتراف متبادل، والتي علي أساسها عادت فصائل المقاومة من الخارج (تونس) إلي الداخل الفلسطيني (أي غزة والضفة)، والتي علي أساسها عقدت الانتخابات التشريعية الفلسطينية مرتين، كانت أخراهما (يناير ٢٠٠٦) هي التي أوصلت حماس إلي أن تكون هي حكومة السلطة، كذلك أعلنت حماس، أنها ستستمر في الكفاح المسلح ولن تلقي السلاح،

وفي المقابل أعلنت الأطراف الدولية المانحة ـ وهي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا واليابان ـ أنها ستتوقف عن مساعدة الحكومة الجديدة إلي أن تعترف بالاتفاقيات التي كانت حكومة فتح السابقة قد وقعتها. بل أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد laquo;محمود هنيةraquo; شعاره المشهور، laquo;لن نعترف.. حتي لو عشنا علي الخبز والزعتر والزيتونraquo; (انظر مقالنا: طريق الزعتر والزيتون ٢٩/٤/٢٠٠٦).

وكان طلابي وقتها يدرسون مادة عنوانها laquo;الحركات الاجتماعيةraquo;، حيث تقول إحدي النظريات إن الحركات الثورية أو الراديكالية، التي تبدأ مسيرتها بالرفض والعنف، تعتدل تدريجيا حينما تصل إلي السلطة. لذلك وجّهوا إلي السؤال المنطقي عما إذا كان ذلك سينطبق علي حركة حماس؟

وحيث كنا مازلنا في أوائل عام ٢٠٠٦، ولم يكن قد مر علي انتخاب حماس إلا أسابيع قليلة، فقد كانت إجابتي لهم وقتها (أنني لا أستطيع أن أجزم بإجابة، حيث إن النظرية التي درسوها مستقاة من خبرة حركات اجتماعية غير عربية في معظمها، وخاصة من أوروبا وآسيا وأمريكيا اللاتينية،

وتحديت طلابي في أن يتواصلوا هم مع حركة حماس وحكومتها الجديدة، ويوجهوا لها نفس السؤال!

وقبل طلابي التحدي، وانتهت المراسلات بينهم وبين حكومة حماس بدعوة لي وللطلاب لزيارتهم في فلسطين والحوار مع حكومة وبرلمان حماس، وجهاً لوجه، وهو ما تحقق فعلاً في أبريل عام ٢٠٠٦، وكتبنا عن ذلك في حينه (المصري اليوم: laquo;في رحاب حماسraquo; ٢٢/٤/٢٠٠٦ ).

أما في العام الدراسي الحالي (٢٠٠٦/٢٠٠٧) فقد جاء الطلاب إلي مقاعد الدراسة في سبتمبر بعد صيف حافل، شهد الحرب العربية الإسرائيلية السادسة، بين حزب الله وإسرائيل، والتي استمرت ٣٣ يوماً، صمد فيها حزب الله إلي النهاية، رغم التفوق الإسرائيلي الكاسح في قوة النيران والمدفعية والطيران والدعم الأمريكي الدبلوماسي والمخابراتي،

ورغم ما أصاب الداخل اللبناني من دمار لم يسبق له مثيل، كان أحد أهدافه إحداث وقيعة بين حزب الله ـ الذي هو في معظمه من أبناء الطائفة الشيعية ـ وبقية الطوائف اللبنانية الأخري، والتي يصل عددها إلي سبع عشرة طائفة إسلامية (السُنة والدروز) ومسيحية (الموارنة والأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت والأرمن..)،

ولم تكن تلك الطوائف تريد حرباً أو صراعاً مسلحاً علي حدود لبنان، بعد أن كانت قد فرغت بالكاد من أهوال حرب أهلية (١٩٧٥ ـ ١٩٩٠) ـ واحتلال سوري (١٩٧٦ ـ ٢٠٠٥). هذا فضلاً عما قيل من أن حزب الله هو الذي laquo;استفزraquo; إسرائيل ـ بقيامه بأسر جنديين إسرائيليين وقتل ثمانية آخرين (١٠ يوليو ٢٠٠٦)، ولا بد أنه كان يدرك جيداً أن إسرائيل ستقوم، كالعادة برد سريع وحاسم، وهو ما حدث فعلاً بدءاً من يوم ١٢ يوليو.

ولدهشة إسرائيل والعرب وأمريكا والعالم، فإن مقاتلي حزب الله الذين لا يتجاوزون عشرة آلاف، بأسلحة خفيفة ومتوسطة، صمدوا في وجه المارد العسكري الإسرائيلي، لا فقط لأيام ستة كما حدث لثلاثة جيوش عربية، وهُزمت فيها عام ١٩٦٧، ولكن لستة أسابيع. والأكثر مثاراً للدهشة، هو أن الشعب اللبناني، بكل طوائفه، التزم الصمت أو التف حول حزب الله،

رغم ما أصاب لبنان من دمار وسقوط ما يقرب من ألف قتيل، ثلثاهم من المدنيين، وثلثهم من مقاتلي حزب الله، هذا في مقابل ثلاثمائة قتيل من الإسرائيليين المدنيين والعسكريين.

والمهم في تلك الحرب أنه رغم أن القتلي والخسائر اللبنانية كانت أضعاف مثيلتها علي الجانب الإسرائيلي، فإن إسرائيل علي ألسنة قياداتها العسكرية والمدنية، وكذلك الرأي العام شعروا جميعاً بأن حزب الله، وهو laquo;ميليشياraquo; غير منظمة، قد ألحق بهم هزيمة غير مسبوقة، من حيث:

١ـ أن تلك الحرب وقعت معاركها مناصفة علي الأرض الإسرائيلية، كما علي الأرض اللبنانية. وهذه الحرب الأولي منذ عام ١٩٤٨، التي يحدث فيها ذلك. ففي الحروب الأربع الوسيطة (١٩٨٢، ١٩٧٣، ١٩٦٧، ١٩٥٦) دارت المعارك علي الأرض العربية، كما أرادت وخططت إسرائيل، إلا هذه المرة.

٢ـ أن الحكومة الإسرائيلية كانت قد قدرت، وبالتالي تعهدت ووعدت الرأي العام الإسرائيلي، أن تلك هي حرب laquo;تأديبيةraquo; لمعاقبة حزب الله علي انتهاك الأراضي الإسرائيلية وأسر جنديين وقتل آخرين، فطالت الحرب إلي ستة أمثال ما وعدت قيادتهم. والواقع أنها كانت أطول حروب إسرائيل منذ ١٩٤٨، علي الإطلاق.

٣ـ أن إسرائيل لم تحقق هدفيها المعلنين لتلك الحرب، وهما استرداد الجنديين الأسيرين، وتدمير القدرات القتالية لحزب الله. فقد توقفت الحرب بإرادة دولية من مجلس الأمن، دون أن يشترط علي حزب الله إطلاق الأسيرين الإسرائيليين. ففي هذا الأمر كان حزب الله واضحاً، من حيث تبادل الأسيرين بكل الأسري اللبنانيين في السجون الإسرائيلية.

وهكذا خرج حزب الله من تلك الحرب منتصراً، بمعني أنه صمد، علي غير ما توقعت إسرائيل وأمريكا والعرب واللبنانيون، ولم يذعن لأي من الشروط الإسرائيلية. ولكن بمجرد انتهاء المعارك الخارجية مع إسرائيل وحلفائها، بدأت معارك أخري بين حزب الله وأطراف لبنانية داخلية.

حيث بدأت هذه الأخيرة تحاسب حزب الله علي ما فعلت يداه، بتوريط لبنان كله في حرب لم يأخذ فيها رأي بقية اللبنانيين، ومن حيث حجم الدمار الذي وقع للبلاد، ناهيك عن عدد القتلي، كما طلبت الحكومة اللبنانية من حزب الله أن يلقي سلاحه،

تنفيذاً لمنطوق قرار سابق لمجلس الأمن هو رقم ١٥٥٩، قبل سنة ونصف، الذي خرجت بمقتضاه القوات السورية من لبنان، رغم أن حزب الله كان قد اعتذر، علي لسان أمينه العام ـ السيد حسن نصر الله ـ عما تسببت فيه الحرب من دمار، وأنه لو كان يدري حجم رد الفعل الإسرائيلي، لما أقدم الحزب علي أسر الجنديين الإسرائيليين!.

وتطورت المعركة الداخلية بين حزب الله وأنصاره وحلفائه، والذين يتحكمون في حوالي ٤٥% من مقاعد المجلس اللبناني، وبين الحكومة اللبنانية، التي يرأسها السيد فؤاد السنيورة وأنصاره وحلفاؤه من تيار المستقبل، وحركة ١٤ مارس،

والذين أطلقوا علي حماس وحلفائها وصف معسكر laquo;الأقليةraquo;، وتبلورت مطالب الأقلية في ضرورة إسقاط حكومة السنيورة وتأليف laquo;حكومة وحدة وطنيةraquo;، وذلك لحساسية الملفات السياسية الداخلية والخارجية التي تجابه لبنان في الوقت الراهن ـ وفي مقدمتها مسألة المحاكمة الدولية للمتهمين في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، السيد رفيق الحريري،

وحيث إن هناك شبهات تحوم حول الدور السوري في هذا الاغتيال، واحتمال توظيف المحاكمة لإحراج سوريا، أو الضغط عليها أو ابتزازها، فإن معسكر الأغلبية (السنيورة، وليد جنبلاط، سعد الحريري، آل الجميل، سمير جعجع) يتهم المعسكر الآخر بأنه يراوغ، مجاملة لسوريا، أو للالتفاف علي قرار مجلس الأمن الذي يطالب بنزع سلاح حزب الله. ويردّ هذا الأخير

، بأنه رغم أنهم أقلية نيابية ووزارية (سبعة وزراء من ٢٥ وزيراً)، فإنهم يمثلون laquo;أغلبية شعبيةraquo;، وللتدليل علي ذلك دعا معسكر حزب الله إلي اعتصام حاشد في أكبر ميادين العاصمة وهو ما حدث. وقد سبق ذلك الاعتصام زيارة الوفد الطلابي ـ الخلدوني إلي لبنان (٨/١٢- ١/١/٢٠٠٧)، ثم استمر خلالها وبعدها.

وكجزء من الخبرة الميدانية، اندفع أعضاء الوفد من اللحظة الأولي إلي laquo;ساحة الشهداءraquo;، وlaquo;ساحة رياض الصلحraquo;، لكي يروا بأعينهم ويستمعوا بآذانهم، علي الطبيعة، لما يقوله ويفعله المعتصمون، الذين كانوا قد دخلوا في أسبوعهم السادس واكتشف طلابنا دقة وانضباط المعتصمين من ناحية،

وأجواء المرح والسمر من ناحية أخري، فما كان لهذا العدد الغفير (ما بين ربع ونصف مليون مشارك) أن يستمر ويصمد طوال هذه الفترة إلا بإبداع تنظيمي غير مسبوق، فقد كان كل فصيل من فصائل المعارضة يتركز في أحد مواقع الساحتين، حيث نصبت الخيام،

وأعدت المرافق، ووسائل الإعاشة، والترويح من الموسيقي إلي الإرجيلة، إلي أماكن للعبادة، وما إلي ذلك، وقد انبهر طلبة الجامعة الأمريكية وخاصة المصريين منهم بهذا المشهد الاحتجاجي اللبناني الفريد، ورغم تأكيدات الجميع أن الاعتصام سيظل سلمياً إلي النهاية، فإنه بعد مغادرتنا بيروت بعشرة أيام، نقلت وسائل الإعلام أنباء اشتباكات بين الفرقاء أدت إلي سقوط عدد من القتلي والجرحي.

لقد كان حزب الله بقياداته وكوادره، هو موضع الاهتمام الأول لطلابنا. فتحدثوا إلي أعضائه المعتصمين، وطافوا مع كوادره بالضاحية الجنوبية لبيروت، ثم سافروا إلي الجنوب حيث تحاوروا مع العديد من قياداته المحلية، وشهدوا بأنفسهم مظاهر الدمار الذي أحدثته إسرائيل.

وقد تفهموا وجهة نظر حزب الله، وتعاطف معظمهم معها، بمن فيهم الأمريكيون والأوروبيون، ومع ذلك أصروا علي أن يستمعوا إلي بقية الفرقاء اللبنانيين، الذين يكونون الأغلبية النيابية، من تيار المستقبل.

وكان مأمولاً أن يلتقي الوفد بالسيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، ولكن أخباراً تداولتها وكالات الأنباء، ونشرتها صحف أوروبية، عن توجيهات من البيت الأبيض إلي أجهزة المخابرات الأمريكية بالتخلص منه، جعلت الإجراءات الأمنية من شبه المستحيل أن يلتقي الرجل بهذا العدد الكبير المتعدد الجنسيات في هذا الوقت،

ومع ذلك فقد كان laquo;السيدraquo;، كما يعرفه أنصاره ومريدوه، كريما، بحرصه علي لقاء المشرف علي الوفد، أي مع شخصنا المتواضع. ويستحق اللقاء أن نفرد له مقالاً خاصاً. فإلي الأسبوع القادم.