القصة الكاملة لكارثة التهجير العثمانية quot;سفر برلكquot; قبل 93 عاما ( 1-3 )
اعتمد الباحث على وثائق وتسجيلات صوتية وافق على منحها أرباب العائلات التي تعرضت للمحنة
المدينة المنورة -خالد الطويل
يستعد أحد أشهر جامعي الوثائق التاريخية في المدينة المنورة لنكء واحد من أكثر الجراح إيغالا في ضمير مجتمع المدينة النبوية حين يدفع نهاية الأسبوع الجاري، بالجزء الخامس من سلسلته عن تاريخ المدينة وهو الجزء الذي سيتضمن، ولأول مرة في التاريخ المكتوب للمنطقة، تسجيلات ووثائق تحكي قصة quot;سفربرلكquot; - كارثة التهجير الجماعي التي طبقتها الدولة العثمانية على رجال ونساء وأطفال المدينة لتخلف مدينة منورة يسكنها العسكر ونحو 140 رجلا فقط، وعدة نساء.
وقرر الباحث أحمد أمين مرشد، عقب سنوات من مراجعته لآلاف الوثائق التي تمكن من جمعها طوال نحو نصف قرن وتمثلت بمخطوطات وتسجيلات وصور، أن يحول ما بجعبته إلى شهادات تاريخية ترسم مشهدا مخيفا لنكبة quot;سفربرلكquot; التي لا يزال أبناء المدينة المنورة يتناقلون القصص المروعة عنها، تلك القصص التي تحكي محنة أسلافهم طوال ثلاث سنوات بدءا من عام 1334هـ.
وحسب مرشد وغيره من المهتمين بتاريخ المدينة المنورة، فقد أدت عملية التهجير الجماعي الواسعة عبر قطار الحجاز إلى تمزيق النسيج الاجتماعي للمدينة حين فرقت تلك الأحداث الجسيمة بين الزوج وزوجته والأم وأبنائها والأخ وإخوته، ولم تترك حينها صغيرا ولا كبيرا دون أن تجرعه مرارتها التي لم تنته تاريخيا إلا في بداية 1338هـ وإن كانت آثارها السلبية ظلت مخيمة طويلا على كافة أطياف المجتمع المدني. ذلك إضافة إلى ضياع تركة ثقافية واقتصادية تمثلت بإهلاك وسرقة ودفن الكثير من المخطوطات والصكوك والذهب والمسكوكات النقدية.
محبوب عليعبدالحميد الثاني الباحثرشيد أغزي
والكتاب، الذي حصلت quot;الوطنquot; على مخطوطته المسلّمة للمطبعة، وعلى إذن مؤلفه بنشر مقتطفات منه، من المقرر توزيعه نهاية الشهر الهجري الجاري وسط ما يبدو أنها حالة ترقب واسعة لدى المثقفين والمهتمين بشأن المدينة المنورة الذين تنامت إليهم أخبار قرب صدور الجزء الرابع من كتاب quot;طيبة وذكريات الأحبةquot; متضمنا فصلا كاملا عن quot;سفر برلكquot;.
ورغم الحساسية العالية للحدث الذي يشعر أسلاف الأسر التي تعرضت للتهجير بأنه مس كرامتهم الإنسانية، حين تم جرهم ونسائهم وأطفالهم معاً أو متفرقين إلى عربات قطار الحجاز ليتم إلقاؤهم عشوائيا في العراق وتركيا والأردن وسوريا.
غير أن مرشد يفصح عن قوائم بالعائلات التي تم ترحيلها بالقوة الجبرية، والعائلات التي رحلت من المدينة المنورة في مرحلة التهجير الاختيارية، والعائلات التي بقيت في المدينة، كل ذلك بالأسماء والشهادات إضافة إلى تفاصيل أخرى ترتبط بالمناطق التي نزل فيها المهجّرون.
ويقول أحمد أمين مرشد، الذي يعتمد بالأخص على وثائق وتسجيلات صوتية وافق على منحها أرباب العائلات التي تعرضت للمحنة، نقلا عن آبائهم أو من ذاكرتهم أيام كانوا صغارا، إنه تأكد بصورة قطعية من عدم ممانعة هؤلاء وأسرهم في الحديث عن مأساة quot;سفر برلكquot; فيما تحفظ مرشد على أسماء آخرين أدلوا بشهاداتهم ورفضوا ربطها بأسمائهم.
ومازجا في مؤلفه بين أسلوب التحقيق التاريخي، ومساءلة الشهود، وبين الأسلوب الصحفي في عرض الوقائع والذي يستند إلى خبرة المؤلف وهو أحد أقدم الصحفيين بالمنطقة، يدفع أحمد أمين مرشد بكتاب يحمل طابع العزاء الحزين للضحايا، والإدانة القاسية للجناة.
quot;سفر برلكquot; كلمتان نزلتا على أسماع أهل المدينة كالصاعقة كلمتان خبأتا بين حروفهما الرعب المزلزل لأسر المدينة داخل بيوتهم المتحصنين بها خوفا من الخطف المباغت، ولم ينج من حممها إلا القليل وهذه الكلمة تعني الترحيل الجماعي حسب تفسيرها باللغة التركية.
لقد مرت على المدينة أيام قاسية تبعتها أشهر ثم سنة مريرة لجأ فيها الأتراك إلى استخدام كل الأساليب لإخراج أهل المدينة من دورهم ونفيهم إلى خارجها شاءوا أم أبوا بالقوة الإجبارية.
تاريخ أسود ونكبة حلت بأهل المدينة كان بطلها القائد العسكري للمدينة فخري باشا واسمه عمر فخر الدين بن محمد ناهد بن عمر كما أن هناك معلومة تقول إن ناجي كاشف كجمان عُين في حامية المدينة خلال الحرب العالمية الأولى وكتب مذكرات دقيقة عن المدينة أيام فخري وجنوده الذين بلغ عددهم خلال تلك الفترة عشرة آلاف جندي.
فمن كان مولده قبل عام 1334هـ أو بعده سواء كان رجلا أو امرأة أو طفلا أو شيخا مسنا لم يرحمه جنود فخري حيث كان الجنود منتشرين وبعدد كبير داخل أسوار المدينة الثلاثة وبين أزقتها وحاراتها ولم يسلم (حسب قول البعض) إلا من كان يسكن داخل الأحواش التي تتميز بقفل أبوابها المتينة ورغم ذلك فإن كل من حاول الخروج قُبض عليه ورُحل.. وتميز الجنود الأتراك حسب توصية قائدهم بالقوة والصلابة والشدة وعدم التهاون أو رحمة شيخ عجوز يبحث عن قطعة خبز أو امرأة تبحث عن ولدها أو شاب خرج بكل حيوية دافعه البحث عن لقمة عيش لوالديه وإخوانه الصغار..كان القطار يمتد كالثعبان من محطة العنبرية مرورا بالمناخة وحتى آخر شارع العينية يلتهم كل جسد بشري يمر من أمامه أو من خلفه.
الهدف من إنشاء سكة حديد الحجاز
كان الهدف من إنشاء السكك الحديدية لربط أجزاء الدولة العثمانية المترامية الأطراف كسياسة عليا للدولة أما في عهد السلطان عبدالحميد الثاني الذي قرر مده من إسطنبول إلى المدينة المنورة مرورا بالعراق وسوريا والأردن لخدمة حجاج بيت الله الحرام الذين كانوا يلاقون صعوبة كبيرة أثناء تأديتهم لفريضة الحج قبل إنشاء الخط، فطريق الحج العراقي حوالي 1300 كم وتستغرق الرحلة شهرا كاملا وطريق الحج المصري من سيناء حوالي 1540كم ويستغرق أربعين يوما، وطريق الحج الشامي يمتد 1302كم وتستغرق الرحلة خلاله أربعين يوما.
وكانت الدولة العثمانية حريصة أشد الحرص على سلامة الحجاج ذهاباً وإياباً لهذا فإنها لم تتردد في دفع رواتب وعطايا لوقف التهديدات المستمرة على قوافل الحجاج، ولم يشعر الحجاج بالأمان والسلام بشكل لافت إلا بعد أن تولى الملك عبدالعزيز آل سعود حكم بلاد الحجاز واستمرت هذه السياسة حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله ومن ثم استمرت هذه السياسة لخدمة حجاج بيت الله في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، وقد اهتمت الأسرة السعودية اهتماماً بارزا بمكة المكرمة والمدينة المنورة وإعداد كل ما يلزم لراحة الحجاج والمعتمرين القادمين من أقصى بقاع الأرض.
ومن أجل إقامة المشروع وجه السلطان عبدالحميد نداء إلى العالم الإسلامي عبر سكرتيره quot;عزت باشاquot; ولقي هذا النداء تجاوبا من مسلمي العالم الإسلامي وتبرع السلطان بمبلغ (320) ألف ليرة من ماله الخاص وتبرع شاه إيران بخمسين ألفا وساهم خديوي مصر عباس حلمي الثاني بكميات كبيرة من مواد البناء.
تشكلت لجنتان لتنفيذ المشروع الأولى في إستانبول برئاسة عزت باشا والثانية في دمشق برئاسة والي الشام وذلك تمهيدا لتتبع مد خط سكة الحديد على نفس خط قوافل الحجاج.
بدأ المشروع في شهر جمادى الآخرة عام 1318هـ، حيث بدأ العمل في منطقة المزيريب ثم إلى دمشق ودرعا بإشراف بعض المهندسين الأجانب من الألمان ماعدا المسافة التي بين العلا والمدينة فقد أشرف عليها مهندسون مسلمون.
وثيقة توضح مراحل ومحطات قطار الحجاز
عقبات واجهت المشروع
صادف المشروع عقبات كثيرة، كان على رأسها نقص المياه، وأمكن التغلب على ذلك بحفر آبار وإدارتها بمضخات أو طواحين هواء، وجلبت المياه في صهاريج تسير على أطراف الخط. ولمواجهة نقص العمال وتوفير النفقات استخدمت قوات من الجيش العثماني بلغ عددها زهاء 6 آلاف جندي و200 مهندس كانوا يعملون في الخط بصفة دائمة. كذلك كانت السيول الجارفة إحدى العقبات التي شكلت خطورة كبيرة وحقيقية على الخط الحجازي في مرحلتي البناء والتشغيل، لذلك قام المهندسون بإنشاء مصارف للسيول على طول الخط الرئيسي.
أما الرمال المتحركة التي تعرض صلابة الخط للخطر وتؤدي إلى انقطاع الحركة بتحرك الخط عن مكانه فأمكن التغلب عليها بتغطية منطقة الرمال المتحركة بطبقة من الصلصال، وبني سد حجري ضيق يمتد موازياً للخط الحجازي ليحول دون خطر تغطيته بالرمال المتحركة. أما مشكلة الوقود فتم استيراد الفحم من الخارج وأقيمت مستودعات ضخمه لتخزينه.
وفي عودة لأول الحدث فبعد أن كان أبناء الشريف حسين علي وفيصل على وفاق تام مع فخري باشا تمهيدا للقيام بثورة ضد السلطة العثمانية أو التركية للانفصال عنها كانت هناك مشاورات بين فخري والشريف حسين عن طريق ابنيه علي وفيصل وكان علي متواجدا بالمدينة في عهد حاكمها بصري باشا الذي كان يتضايق من تدخلات الشريف علي في بعض أمور السلطة وقد اشتكى بصري باشا الشريف علي إلى جمال باشا حاكم الشام وقام جمال بمخاطبة الشريف حسين وابنه فيصل الذي كان متواجدا في سوريا، ورحل علي من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة.
شارك في المشروع 6 آلاف جندي و200 مهندس وقد بلغت تكاليف الإنشاء 4.283.000 ليرة عثمانية، وكان العمل ينجز بطريقة سريعة حيث يكون الانتهاء من مد سكة الحديد في السنة الواحدة 182كم.
وبعد الانتهاء من ربط الشام بالمدينة أصبح القطار يقطع المسافة التي تبلغ 1320كم بين دمشق والمدينة في 72 ساعة زد عليها بعض الساعات التي تضيع بين وقوف القطار في المحطات وتغيير القاطرات.
أهالي المدينة يمهدون طريق القطار
خط سير سكة حديد الحجاز
تبدأ سكة حديد الحجاز بعد محطة مزيريب من (محطة دمشق) وتمر بعدد من المحطات في طريقها ومن أهمها: الديرة - عمان - جزا - عطرانة (القطرانة) - معان - غدير الحج - بطن الغول - مدوارة (المدورة) - تبوك - الأخضر - المعظم - الدار الحمرا - مدائن صالح (الحجر) - العلا - هدية. لتنتهي السكة بمحطة المدينة المنورة. وهناك محطات فرعية أخرى على امتداد طول السكة.
ويشار إلى أن المحطات الرئيسية تحتوي على ورش لإصلاح القاطرات ومبان خدمية للإشراف والحراسة والتمويل ومبان مخصصة لإسكان الحجاج والمسافرين وخزانات للمياه ودورات مياه.
خط سير القطار من دمشق إلى المدينة المنورة
وقد تحصل الباحث على وثيقة قديمة من مكتبة آل هاشم بالمدينة مؤرخة في 20 يوليو 1328هـ بخط السيد جعفر هاشم مكتوب فيها بالتفصيل مسيرة القطار من دمشق أو من المزيريب حتى المدينة المنورة مفصلا فيها المسافة بين المناطق التي يمر فيها القطار وأسماء الهجر والقرى والأودية ومحطات الوقوف وزمن الوقوف والتحرك ونقل منها الباحث ما يلي:
وصل الخط من دمشق إلى درعا عام 1901م،حيث يمر القطار عبر سيره على المناطق التالية سواء صغيرة أو كبيرة ومنها محطات توقف هي:
من درعا إلى قم غارز 7 ونصف كم ثم نصيب 25 كم ثم مفرق 23 كم ثم سمرا 17كم ثم رزقا 19 كم ثم مدينة عمان 11كم، ومن عمان إلى قصر14كم ثم إلى لبن 11كم ثم إلى جيزه 19كم ثم إلى ضبعه 16كم ثم إلى خان الزبيب 14كم ثم إلى سواقه 16كم ثم إلى قطرانه 22كم ثم إلى منزل 18كم ثم إلى قريقرة 10كم ثم إلى الحسا 19كم ثم إلى جروف الدراويش 25كم ثم إلى عنزة 17كم ثم إلى وادي جردون 18كم وأخيرا إلى معان. ومن مدينة معان يتحرك القطار مارا بالقرى والهجر والمحطات التالية:
معان - غدير الحج - بئر الشديد - عقبة - وادي رتم - تل الشحم - رمله - مدورة - حارة العماره (حارة عمار) الحدود الحالية ومنها إلى ذات الحج - بئر هرماس - الحزم - محطب - وأخيرا محطة تبوك. ومن تبوك يتحرك القطار إلى مدائن صالح مرورا بـ: وادي أتيل - دار الحج - مشيقعة - أخضرا - خميس - دير سعد - المعظم - خشم صفا - دار الحمرا - مطالع - أبو طاقة- مبرق (مبرك) الناقة - وأخيرا مدائن صالح ومن مدائن صالح إلى المدينة المنورة ويمر على المناطق التالية:
العلا - بدايع - مشهد - سهل المطر - زمرد - بئر جديد - طويره - مدرج - هدية - جداعة - أبو النعم - عنتر أو ما يعرف بإسطبل عنتر _ بويره - أبيار نصيف - بواط أو بواطه - الحفيرة - مخيط وأخيرا محطة إستصيون المدينة المنورة التي تحتوي على مبانٍ بطول 600 متر وعرض حوالي 400 متر.
وقد وصل القطار إلى المدينة المنورة في باب العنبرية في 22 رجب 1326هـ. بينما وجد الباحث في مذكرات السيد جعفر حسين هاشم أن وصول الخط الحديدي (الشموندفير) في 16 رجب 1326هـ وفي عام 1329هـ وصل عدد ركاب القطار إلى 119000 ألف.
ويورد الباحث أسماء بعض مهندسي وسائقي خط سكة حديد الحجاز ومنهم:
1- أبو زبدي - مهندس ويعمل بين مدن الشام.
2- رشيد الغزي مهندس بين المدينة وتبوك.
3- عبده عبدالله زيادة مهندس.
4- حسن الخانجي.
5- يعقوب أفندي وهذا كان آخر سائق للقطار وصل إلى المدينة المنورة يحمل المؤن من الأردن في شهر ربيع الثاني عام 1336هـ.
6- محبوب علي سائق القطار رقم 105 وهو آخر قطار توقف عن سيره في 13 جمادى الأولى 1336هـ.
7- المهندس محمد فخري أفندي الذي قتل في محطة البوير 1327 - خلال هجوم على القطار..
من ذكريات سكة حديد الحجاز
1. كان (السيد محبوب علي بن السيد فضل حسين)، المولود عام 1307هجرية المتوفى عام 1394هجرية، أصغر كابتن في سكة حديد الحجاز، ولم يكن هناك من يعمل سائقاً للقطار غيره من أهل الجزيرة العربية، إذ إن الباقين أتراك، نعم كان هناك (الشيخ عبدالمجيد خطاب) موظفاً في المحطة، وكان (السيد هاشم رشيد) مهندساً في المحطة أيضاً وكان أحد المهندسين المنفذين للمشروع، وكانت لديه مخططات المشروع محتفظاً بها أخذها منه الكاتب الرحالة (فؤاد حمزة) لأجل أن يستفيد منها في كتابته عن سكة حديد الحجاز ولكنه لم يعدها له، و(السيد هاشم رشيد) هو والد الشاعر(محمد هاشم رشيد)، وكان من النفر العاملين في سكة حديد الحجاز الوافدين على السلطان عبدالحميد العثماني.
2. أما عن الأعمال التي شغلها (السيد محبوب علي) في سكة حديد الحجاز فبدايتها أنه كان الذي يزود مقود القطار بالفحم، ثم إنه وخلال تلك الفترة القصيرة من عمر سكة حديد الحجاز ترقى حتى وصل إلى كابتن، فمسمى الوظائف التي شغلها هي كالتالي: (كمرجي، سرجي، أطاشجي، معاون كابتن، كابتن).
3. لاشك أن القطار كان طريق سيره في الحجاز شديد الخطورة، وقد انقلب القطار مرتين، مرة بسبب تخريب مفاجئ في موضع من السكة، وكادت رصاصة في هذه الحادثة أن تودي بحياة سائق القطار ولكنها أطارت بطربوشه لما أصابته، والثاني أثناء الحرب العامة.
4. عايش السيد محبوب علي أحداثاً جمة أثناء عمله سائقاً للقطار، منها السياسية والعسكرية والاجتماعية والإنسانية، فقاده القطار إلى زواجه بابنة (البنكباشي علي رمزي) الحاكم العسكري في نابلس إبان تلك الحقبة، وعايش على مضض أحداث (سفر برلك) الصعبة والمؤسفة، حيث كان أهل المدينة المنورة يُكرهون على الخروج منها وبالقوة، فقد كانوا يلوذون بالبادية أو ببعض المدن والأقاليم الإسلامية هرباً من الفتن والجوع، فكان المحظوظ من الأهالي من أقلّه القطار إلى مكان آمن، ومنهم من يضطر إلى قطع المسافات الطويلة على رجليه.
5. حين تعطلت سكة حديد الحجاز عن العمل بفعل الإنجليز إبان الثورة العربية الكبرى، أذن حاكم المدينة فخري باشا للسيد محبوب علي بالسفر إلى الهند حيث هرب أبوه إليها، ثم عادا جميعاً في زمن الشريف علي بن الحسين حيث فوجئ بنهب داره وجميع ماله في داره بالمغيسلة.
حلقة - 2
تطرقنا في حلقة أمس إلى لمحات من قصص تهجير أهل المدينة المنورة بالقوة على أيدي القوات العثمانية، والتي رصدها الباحث أحمد أمين مرشد، - في كتاب سيصدر قريبا - عقب سنوات من مراجعته لآلاف الوثائق التي تمكن من جمعها طوال نحو نصف قرن وتمثلت بمخطوطات وتسجيلات وصور، محولا ما في جعبته إلى شهادات تاريخية ترسم مشهدا مخيفا لنكبة quot;سفر برلكquot; التي لا يزال أبناء المدينة المنورة يتناقلون القصص المروعة عنها، تلك القصص التي تحكي محنة أسلافهم طوال ثلاث سنوات بدءا من عام 1334هـ.
كما تطرقنا إلى قصة إنشاء قطار الحجاز الذي استخدم في عمليات التهجير القسري تلك، وأوردنا أسماء بعض من عملوا بالقطار، ونستكمل اليوم طرح تاريخ بعض تلك الأسماء المدينية التي عملت في سكة قطار الحجاز ومن ضمنهم وحسب الباحث السيد محبوب علي بن السيد فضل عطاء حسين الهاشمي الحسيني والذي وُلِد عام 1307هـ، وكان والده قد هاجر إلى المدينة المنورة قادماً إليها من (حيدر أباد الدكن)، وهو ينتسب إلى أسرة هاشمية عريقة تنتسب إلى (محمد الحائريّ بن إبراهيم الضرير بن محمد العابد بن الإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي السجَّاد زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم)، وقد تفرَّعتْ الأسرة إلى فرعين اثنين؛ فرع (الحسن بن عليّ) وفرع أخيه (الحسين)، وكان المترجم من فرع (الحسن بن علي) المذكور، وحاصل الأمر أنه قرشيّ؛ هاشميّ؛ طالبيّ؛ علويّ؛ حسينيّ؛ موسويّ.
كان أبوه السيد فضل حسين منتدباً من قبل حكومة حيدر أباد لعمل هو أشبه ما يكون بعمل القنصل، فكان أبوه مهتماً بالسياسة متتبعاً لها، ومن هنا كانت له معرفة جيدة بمسؤولي الحكومة العثمانية في المدينة.
قطار الحجاز يتعرض لعملية تفجير
توفيت أمه وهو لم يزل صغيراً، ففقدها ووجد لفقدها، وتلقى شيئاً من العلم والأدب ليس بالكثير وإنما الذي يعينه على الحياة، كما تعلم اللغة التركية العثمانية وأتقنها بل وأجادها إجادةً تامة، هذا بجانب اللغتين الأردية والفارسية وشيئ من الإنجليزية.
ولما اكتملت سكة حديد الحجاز انخرط فيها ليعمل وهو دون العشرين عاماً، فتعين في أول الأمر في وظيفة متواضعة، ثم ما لبث يترقى وفي فترة وجيزة إلى أن صار معاون كابتن؛ فكابتن، فتدرج في تلك المسميات كمرجي؛ سرجي؛ أطاشجي، معاون كابتن؛ حتى كان كابتنا؛ فكان السائق الشهير؛ سائق القطار رقم 105 في سكة حديد الحجاز.
وفي عام من الأعوام كان أحد أعضاء وفد سكة حديد الحجاز إلى السلطان العثماني (عبد الحميد خان الثاني) في (الأستانة) وهو دون الثلاثين من عمره، إذ إنه كان أصغر كابتن في سكة حديد الحجاز؛ فعمره آنئذٍ لم يتجاوز السابعة والعشرين عاماً.
في أثناء هذه الفترة تزوج أبوه بزواجه الثاني، وكان يسكن بقرب محطة سكة الحديد مع والده في (حوش الراعي)، وولد لأبيه ابنة هي الشريفة (فاطمة بنت فضل حسين)، أما هو فقد تزوج في هذه الفترة بزواجه الأول بامرأة من نفس أسرته هي الشريفة (أحمدية بيكم)، فولدت له الشريفة (هاجر بنت محبوب علي)، بيد أن هذا الزواج لم يكتب له الدوام إذ إنه طلق زوجته هذه.
أما زواجه الثاني _ حسب ماورد في كتاب الباحث المرشد_ فقد كان له قصة، فقد حطَّ (السيد محبوب علي) رحال قطاره في مدينة نابلس، ونزل هو وطاقم القطار للراحة، في هذه الأثناء كان حاضراً (البنق باشي عليّ رمزي)، ولعله كان الحاكم العسكري لمدينة نابلس وتعرف على محبوب علي وعرف أنه من المدينة المنورة ولما عرف أنه غير متزوج رغب في تزويجه، فقال: لا أستطيع حتى يأذن لي أبي.
فلما قدم المدينة وقصّ على أبيه القصة قال له أبوه كغير المبالي: تريد أن تتزوج؟ تزوج.
ثم إنه لما قدم نابلس في الرحلة القادمة قدم إلى صديقه خاطباً، فتزوج ابنته (حورية بنت عليّ رمزي)، فكان تارة يأتي بها إلى المدينة في عودة القطار، وتارة يأخذها إلى أهلها في ذهابه، وهكذا دواليك حتى وعلى غير موعد كانت الثورة العربية الكبرى، إذ ثار (الشريف حسين بن علي) على العثمانيين في جزيرة العرب، وصادف أن كانت زوجته في ديار أهلها، وانقطع الخبر، وهجر أهل المدينة عنها وأخليت، وقدم محبوب إلى المدينة وإذا أبوه وأخته وابنته من زواجه الأول ليسوا بها، لقد تم إخراجهم كغيرهم من أهل المدينة، ثم ما لبثوا أن ركبوا البحر من ينبع ليحطوا برحالهم في حيدر أباد في الهند.
القائد العسكري فخري باشا أثناء مغادرته المدينة
وكان للسيد محبوب علي حضورٌ ظاهرٌ وبارزٌ في مأساة (سفر برلك)، ففي خضم هذه الأحداث المؤسفة والشديدة آثر رحمه الله البقاء في عمله كسائق للقطار ليس عن فراغ وكيف يكون في فترة راحة وفراغ وهذا أبوه وابنته قد تمَّ إخراجهما من المدينة وإبعادهما عنها كبقية أهل المدينة؛ ولكنه آثر البقاء لغرض إنساني؛ فقد كان منطقه: (ما دام أن أهل المدينة يُضطرون على الخروج منها ويُبعدون عنها؛ إذن فالقطار كفيل بنقلهم إلى برِّ الأمان)، كيف لا والناس كأنهم جراد ينتشر من أبواب المدينة، اليوم يهجرونها وقد كانوا في القديم يهاجرون إليها فالوالد في واد والولد في وادٍ؛ الأخ في بلد، والأخت في بلد آخر، فالقطار كفيل بأن يُهجِّر الأسرةَ كاملة إلى برِّ الأمان، وإن شِئتَ قلت إلى بحر الأمان، والقطار كفيل بإبعاد الفتيات العذراوات اللواتي كنَّ في الخدور مكنونات عن شبح فخري باشا الذي لم تستسلم حاميته وإنما آثر البقاء في المدينة، ذاك فخري باشا الذي وقف وهو يقول: (لتبقى المدينة واحة عثمانية)؛ يقول هذا رغم انسحاب الجنود الأتراك من كافة البلدان العربية، بل إنه أصرَّ على أن تبقى المدينة كذلك فسعى لتحقيق نظريته في ميدان العمل، فأجبر فتيان المدينة وفتياتها وشيوخها وعجائزها على بناء القلاع وشقِّ السكك إن كان أحدٌ منهم يريد أن يحصل على قوت يومه؛ وقوت اليوم كان نصف رغيف لا أكثر ولا أقل.
ويتابع الباحث عن محبوب القول ثم إنه لما تعطلت سكة حديد الحجاز العطلة الأخيرة وكان قد علم بمكانهم سافر إليهم، ثم ما لبث أن اتصل بملك (حيدر أباد) المير عثمان علي خان الذي شكا له تعطل سيارته الخاصة، فقام (السيد محبوب علي) بإصلاح العطل، ففرح وأمر بجراية له مؤبدة، فكانت تلك الجراية تصل إلى ابنته هاجر من زواجه الأول إلى أن انتهى زمان مملكة (حيدر أباد) الإسلامية في (الدكن) بمؤامرة من الدول الغربية الصليبية.
أما زوجته (حورية بنت علي رمزي) فقد افتقدته، فقدمت المدينة لتبحث عن زوجها، فإذا الديارُ قد تخلى عنها أهلها، ورسوم شاخصة لا حياة فيها. ديار كانت القطط وما كان نحوها وليمة سائغة على موائدها، إنه موعد أهل المدينة مع quot;سفر برلكquot;.
ثم علمت أن زوجها قد غادر المدينة إلى (حيدرأباد) فأصرت على مواصلة الرحلة، وكان معها عدد من الحشم والخدم، ولكن ماذا بعد أن قدمتْ (حيدر أباد) ؟ إنها الآن في (حيدر أباد).
لقد أبرزت صورة زوجها الحبيب وجعلت تسأل: أين أجد صاحب هذه الصورة؟
أخيراً وجدته، وأخذت الدهشة زوجها أيما مأخذ.
فولدت له (السيد هاشم بن محبوب علي)، و(الشريفة خديجة بنت محبوب علي)، ولم يدم مكوث الأحبة، فقد تفشى الطاعون إثر الحرب العالمية فكانت هي من ضحاياه البريئة، فدفنت في الهند.
ويتابع الباحث أما عن استسلام (فخري باشا) للهاشميين الأشراف(حسب قول البعض) فكان ذلك لما ضجر الجنود الموالون له بسبب الجوع الشديد؛ والحرِّ الشديد؛ وتفشي المرض؛ فقد تفشى في الجنود مرضٌ غريب؛ يظهر في الجندي فجأة وخلال ساعة يكون الجندي جثَّةً هامدةً؛ ففي حينٍ كان فيه (فخري باشا) نائماً وهو مطمئن في مؤخرة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مستودعاً للسلاح وإذا بقائد جيشه ومعه كبار الضباط وهو يوقظه ومسدسه على رأس (فخري باشا) عند صدغه وهو يقول له: سيدي جناب فخري باشا متولي المدينة المنورة
- أفندم
- قم وسلِّم المدينة للشريف
- أفندم
واستسلمت حامية المدينة (للشريف عبد الله بن الحسين بن عليّ)، وأعدَّ (فخري باشا) لذلك مرسوماً عسكرياً تم بموجبه تسليم المدينة وفق ما تمليه النظم العسكرية وقوانين الحرب.
وعاد الركب المدني إلى المدينة المنورة في عهد (الشريف علي بن الحسين)، إلاَّ أن ابنته من زواجه الأول فقد تركها في عناية أمها وأجرى لها جراية ملك (حيدر أباد) على أمل أن يأتي بها حينما تكبر، وهذا الذي لم يحدث بسبب كبر سنه وصعوبة الظروف في ذلك الوقت، فتزوجت من (السيد زين العابدين الحسيني).
قدم محبوب إلى المدينة المنورة فإذا بيته في المُغَيْسَلَةِ في العنبرية قد نُهِب بصكه الشرعي وكان قد اشتراه بخمسة وثلاثين جنيهاً عثمانياً ذهباً، فلا بيت ولا عمل، فحاول إخراج صك له إلاَّ أنَّ محامي المالية (عبد الحق نقشبندي) ـ صديقه القديم ـ وقف معه بكل ما أوتي من قوة وأعانه على ذلك قومٌ آخرون لقد ودَّع اليوم القطار الذي صحبه منذ عنفوان شبابه إلى الأبد، ودَّعه وهو يقول سيذكر العرب ذلك، والذي حدا به لهذا القول تلك المحاولات المتكررة من قبل البعض بتخريب سكة حديد الحجاز منذ أن كانت الفكرة في مهدها؛ وكيف لا يأسف على سكة حديد الحجاز وهي التي تبرَّعت الشعوب الإسلامية بسخاء لأجل إنشائها؛ وقد عايش محبوب بعض محاولات التخريب؛ فمرَّة تعثَّر القطار وهو في طريقه بسبب تخريبٍ أحدثه بعض الأشقياء فيما بين المدينة والشام؛ ثم انهالوا بنيرانهم على من في القطار؛ فكمن كلٌّ في مكمنه وتصدى لهم العسكر والحرس؛ أما سائق القطار فلم يكن مسلحاً؛ فألجأته رصاصةٌ إلى صخرةٍ؛ وكادت الرصاصةُ التي أطارتْ بطربوشه الأحمر القاني أن تودي بحياته.
فعمل في معمل النسيج بالمدينة الذي كان ملك (حيدرأباد) قد تبرع به لأهل المدينة فعمل نسَّاجاً ثم كان أميناً للمستودع.
ومكث على حاله هذا السنين ذوات العدد، حتى تزوج بزواجه الأخير في العهد السعودي من (عائشة هانم بنت الأفندي أحمد) من أهل مدينة (سيواس) في (تركيا) فولدت له (السيد حيدر)؛ و(السيد إبراهيم)؛ و(السيد محمد)، وولدت له أولاداً ماتوا صغاراً وهم (أحمد)؛ و(فريدة)، وتوفي (السيد محبوب علي) في المدينة المنورة عام 1394 هجرية وقد بلغ من العمر سبعاً وثمانين عاماً.
تدمير خط سكة حديد الحجاز
كان أكبر تهديد تواجهه سكك حديد الحجاز هو البريطاني توماس إدوارد لورانس ومجموعة المتمردين العرب راكبي الجمال التي قادها والتي كانت تخرب الخط الحديدي لشن هجمات على القطارات التي تحمل الجنود الأتراك.
واستمر خط سكة حديد الحجاز في سيره بين المدينة المنورة وإسطنبول تسع سنوات حتى تم تدميره بعد بداية الحرب العالمية الأولى في بداية عام 1337هـ (1919م) وأواخر عام 1337هـ، بمؤامرة من الجاسوس الإنجليزي لورانس وتنفيذ الشريف حسين ومساعدة من الأعراب القاطنين شمال الجزيرة العربية حيث خرب الخط ودمرت بعض جسوره وانتزعت قضبانه في عدة أجزاء منه، وكانت الذريعة التي سوّلت للشريف حسين القيام بهذا العمل التخريبي تتمثل في احتمال قيام quot;أحمد جمال باشاquot; قائد الجيش العثماني الرابع باستغلال خط سكة حديد الحجاز في نقل قواته لضرب الثورة العربية في عقر دارها. ويمثل تدمير الخط حلقة البداية لتقطيع أوصال العالم الإسلامي بين المنتصرين في الحرب العالمية وبخاصة بريطانيا وفرنسا ونهاية للخلافة العثمانية الإسلامية.
جمال باشا يعين فخري حاكما عسكريا على المدينة
ويتابع الباحث عندما أراد الشريف حسين تنفيذ خطته للقيام بالثورة خاطب ابنه فيصل بالشام وأخبره بكل التفاصيل ورسم له خطة انسحابه من الشام... كان من ضمن الخطة أن يستأذن الشريف فيصل من جمال باشا حاكم الشام للذهاب إلى المدينة ليأتي بالمتطوعين من الحجاز إلى سوريا وعندما وصل فيصل إلى المدينة اجتمع بأخيه علي واتفقا على الخروج من المدينة.. وبعد خروجهما ضموا القبائل المحيطة بالمدينة إليهم وعادوا لمحاصرة المدينة.
وعندما أدرك جمال باشا قرب بوادر الثورة وعلمه بما وصله من أخبار عين فخري حاكما عسكريا وبصري باشا حاكما إداريا للمدينة المنورة وإكمالا للخديعة فبعد وصول فخري إلى المدينة حاكما عسكريا أرسل له الأمير علي كتابا نصه:
(بناء على الأوامر الصادرة من أبي سيقف نقل المتطوعين إلى فلسطين ولهذا عقدت النية على العودة إلى مكة بدلا من ضياع الوقت هنا وإني آسف لاضطراري إلى الرحيل بدون أن أودعك فالمرجو قبول عذري)
خرج فخري إلى المكان الذي تجمع فيه جيش الأشراف في الفريش التي عُرفت باسم (عُرضي الشريف) فلم يجد أحدا عندها أدرك أن هناك نية من الشريف حسين وأبنائه لمهاجمة المدينة بعد جدة والطائف..
وفعلا قبل إعلان الشريف حسين الثورة العربية من مكة في 9 شعبان 1334هـ أرسل في يوم 4 شعبان 1334هـ جيشا بقيادة ابنيه علي وفيصل ومعهما الموالون للثورة فقاموا بمهاجمة مراكز الجيش العثماني في أطراف المدينة ولكن قوات فخري تصدت لهم وألحقت بهم عشرات القتلى وتكرر هجوم الأشراف ولكنه فشل للمرة الثانية وعاد فيصل وأخوه علي إلى ينبع النخل ولحقهما جيش فخري وحاصرهما فيها ولكن بعض القبائل وقفت ضد جيش فخري إضافة إلى البوارج الإنجليزية التي كانت مساندة للأشراف فانسحب فخري عائدا إلى المدينة لتحصينها.
وبعد الهزيمة حاول فيصل بث الروح في جيشه ففكر مع لورانس ثم افتتحا مراكز جديدة لتدريب رجال القبائل على كيفية استعمال الأسلحة الخفيفة، وتفجير الديناميت. وكان الضباط الجدد يساعدونهم في تنفيذ كل ذلك.
ثم كان دور لورانس بعد هزيمة الجيوش العربية وعدم قدرتها على فتح المدينة فقرر الاشتراك شخصيًا والتخطيط في الهجوم الثالث الذي تقوم به الجيوش العربية على المدينة ووضع خطة حربية مع أبناء الشريف حسين للهجوم على المدينة.
وهذا عرض موجز لهذه الخطة الهجومية الجديدة: يهاجمها فيصل من ناحية الغرب على رأس جيش قوامه ثمانية آلاف محارب. بينما يتقدم شقيقه علي نحوها بعد أن ينطلق من ميناء رابغ على رأس جيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل. وفي نفس الوقت كان من المقرر أن يقوم شقيقه زيد وهو شقيقه من والده بالهجوم على الفرقة التركية المعسكرة بالقرب من بئر عباس، وبذلك يشغلها عن المعارك الدائرة حول المدينة المنورة ويقطع عليها سبيل الانتقال إلى هناك لنجدة القوات التركية في المدينة المنورة. كذلك، كان على الأمير عبد الله أن يتقدم بالهجوم على المدينة من الشرق على رأس جيش قوامه أربعة آلاف محارب وهكذا يصبح الجيش التركي في المدينة كأنه معزول عن العالم الخارجي لأنه سيكون مطوقًا من الجهات الأربع. ورغم كل تلك الاستعدادات والكثافة العددية فشلت الجيوش العربية في الدخول إلى المدينة أو فتحها وذلك لبسالة فخري وجنوده الذين واجهوا القوة العربية بكل ضراوة مما أدى إلى تراجعها مرة ثالثة.
وبعد عودتهم إلى مكة قامت الحرب العالمية الأولى وكان هناك تدعيم خفي للشريف من قبل الإنجليز. ولم تكن زيارة أبناء الشريف حسين المتكررة إلى المدينة إلا للاطلاع على القوة العسكرية الحامية للمدينة. حيث كان تفكير الشريف حسين وتخطيطه عندما يقوم بالثورة العربية الكبرى أن يضم المدينة إليه.
عاد الشريف علي للمرابطة مع قواته في القرى القريبة من المدينة وفي المقابل قام فخري بتعزيز خطوط دفاعاته وعززها بخطوط هاتفية وضبط الأمن داخل المدينة وصادر معظم المواد الغذائية خاصة الحبوب وخزنها كما استفاد من موسم جني التمور فأمر جنوده بجمعها وضغطها في قوالب صغيرة للمحافظة عليها واستخدامها خلال الحصار.
ومن أجل تخفيف الضغط على أهل المدينة ومن أجل الصمود أمام الأشراف قام فخري بمهمة تنبيه أهل المدينة بالرحيل الذي كان في بداية الأمر اختياريا ثم أصبح إجباريا.
ومن حسنات الشريف حسين عند ترحيل أهل المدينة من قبل جنود فخري في المرحلة الإجبارية أنه لم يتعرض إلى أي قطار يحملهم خلال التهجير في اتجاه تبوك والأردن أو سوريا أو العراق أو إسطنبول حيث إن هذا الموقف يسجل للشريف حسين وأبنائه خدمة وتقديرا للمجاورين للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.. ويضمن من جهة أخرى ألا يكون الضحايا من المدنيين خلال حصاره للمدينة..وتفيد بعض المعلومات التي سجلتها لكبار السن ممن عايشوا تلك الفترة أن من بقي في المدينة من أهلها من الرجال 140 رجلا وعدة نساء فقط..
بينما تمكن العلامة الشيخ ألفا هاشم الإفريقي من إقناع فخري بعدم ترحيل وإخراج جماعته الأفارقة من المدينة حيث استجاب فخري لطلبه على أن يقف الرجال منهم بجانبه خلال الحصار وعلى أن يتولى الشيخ ألفا هاشم إقامة الصلوات في المسجد النبوي الشريف إلا أن هذا الشرط الأخير لم يتمكن الشيخ ألفا هاشم من تنفيذه إلا في بداية الحصار فقط وعندما اشتد الحصار واتخذ فخري من المسجد النبوي ثكنة للجنود والأسلحة واتخذ من المنائر أبراجا للمراقبة تعطلت الصلوات ولم يرفع الأذان من المنائر لفترة.
ويستطرد الباحث: شحت المواد الغذائية وارتفعت الأسعار وتفشت الأمراض وعاشت المدينة ثلاث سنوات شديدة القسوة من شهر شعبان 1334هـ وحتى شهر جمادى الآخرة من عام 1337هـ عانى فيها أهل المدينة الجوع والمرض والفقر ولم تقتصر الآثار السيئة للحصار على أهل المدينة فقط بل عانت منها القوات العسكرية التي انتشر بينها مرض الحُمى ومنهم من هرب ملتحقا بقوات الشريف كما امتدت الآثار السلبية إلى المجتمع المدني في تناقص الغذاء ورفع الأسعار بحيث أصبح كيس الأرز يعادل قطعة أرض أو قيمة بيت حيث باع أحدهم منزله مقابل كيس أرز ووصل الحال في المدينة إلى أكل الحيوانات النافقة وهنا كان أمامهم خياران إما القبول بهذا الوضع أو الهجرة خارجها فكان الخروج الاختياري ثم الإجباري عبر قطار الموت كما سماه البعض.
ونظرا لما أصاب الجند من إحباط واضح أنشأ فخري باشا سجلا سماه (سجل أحباء الحجاز) وفيه أخذ العهد على الجنود بالبقاء في المدينة حتى النهاية وفي محاولة منه لتهدئة نفوس الجنود وتقوية عزائمهم عمل على إشغالهم بالبناء والتعمير وشق الطرق والزراعة وحفر الآبار...وخلال هذه الفترة توقف النشاط التجاري وحركة البيع والشراء وقام بعض الجنود من باب العطف أحياناً وبالرشوة أحياناً أخرى بإخراج ماتبقى من أهل المدينة بطريقة سرية ليلا.
وبعد قيام الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين استولت قوات الشريف على معظم مدن الحجاز ماعدا المدينة المنورة التي ظلت تقاوم حتى بعد الحرب العالمية الأولى بشهرين.. وقام البكباشي الإنجليزي جيرالد بتفجير أول قطار في منطقة الطويرة.
ويضيف الباحث تمركزت قوات الشريف في منطقة الفريش والتي عرفت باسم (عُرضي الشريف) وكان ذلك في النصف الأول من عام 1334هـ..ووصلت الأخبار إلى فخري بذلك فكان تفكيره الأولي هو إنذار أهل المدينة بالرحيل عنها سلميا ليتمكن من مواجهة قوات الشريف ومن أجل ألا يتعرض أهل المدينة لأخطار الحرب والحصار أصدر فخري باشا إعلاناً لأهل المدينة بتركها لحين انتهاء المواجهة مع قوات الشريف.
وكانت بريطانيا من جهة أخرى وتضامنا مع الشريف حسين أرسلت تحذيرا لفخري باشا في 3/2/1337هـ تطلب فيه تسليم المدينة خلال خمسة عشر يوما وإلا فسوف تقوم قوات الشريف بمهاجمته ولكن فخري رفض التحذير فأرسلت السلطة العثمانية الرائد ضياء الذي وصل المدينة في 11 ربيع الأول 1337هـ لتبليغ فخري بأوامر السلطة العثمانية لتسليم المدينة للأشراف ورغم هذا رفض فخري التسليم وكان نتيجة لهذا ولعلم الجنود باستسلام حكومتهم أن زادت حالات الهروب حتى إن وحدات وسرايا بأكملها أخذت تسلم نفسها إلى قوات الشريف حسين.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط العاصمة العثمانية ظل فخري صامدا ولكن بعد معاهدة الصلح التي وقعتها تركيا مع الحلفاء أرسل وزير الدفاع التركي برقية إلى فخري لتسليم المدينة فرفضها فتم تعيين مصطفى كمال قائدا لحامية المدينة الذي رفض الأمر قائلا (أنا لا أخلي المدينة مادام هناك قائد يتولى الدفاع عنها, وعليه أن يخليها هو بنفسه) وهنا كان إجراء آخر هو مخاطبة إسطنبول بعض الضباط في قيادة فخري وأمرهم بعزله وتسلمهم للقيادة.. وفعلا نفذوا الأمر وسلمت المدينة للهاشميين في الخامس من شهر ربيع الآخر عام 1337هـ.. (إلا أن بعض المصادر تقول إن فخري سلم المدينة للأشراف في 19/7/1337هـ).
ويحكي البعض ممن قابلتهم أن فخري كان ينام في مؤخرة المسجد النبوي الشريف وتم القبض عليه من قبل جنود الأشراف بمساعدة أحد معاونيه بعد أن طمأن فخري بعدم وضع سلاحه بجانبه كعادته ليفاجأ بدخول الجنود عليه وبعد القبض عليه خيره الشريف فيصل بين البقاء أو الرحيل ففضل الرحيل حيث غادر إلى ينبع ومنها إلى مصر ثم إسطنبول...
ويصف ناجي كاشف كجمان في مذكراته كيفية استسلام فخري حيث يقول: طلب فخري بعد استسلامه وخروجه أن يلقي خطبة من فوق منبر المسجد النبوي الشريف حيث صعد إلى المنبر والورقة تهتز بين يديه وخطب في مساعديه ومعاونيه ومن كان موجوداً من أهل المدينة المنورة خطبة اعتذر لهم فيها. كما يقول ناجي كاشف إنه في يوم الجمعة 9 يناير 1337هـ جهزت سيارة لفخري باشا فاستقلها متوجهاً إلى الفريش حيث مخيم الأشراف ومنها إلى ينبع حيث واصل سيره إلى جدة ثم إلى مصر ثم إلى إسطنبول.
التعليقات