جهاد فاضل


في المعلومات التي كشفت اخيرا عن الروائي والقاص المصري الكبير الراحل الدكتور يوسف ادريس، ان عضو مجلس قيادة الثورة ورئيس مجلس ادارة جريدة 'الجمهورية' (في حينه) أنور السادات أعجب به ككاتب الى درجة انه عهد اليه بكتابة عموده اليومي الذي كان يشكل افتتاحية 'الجمهورية' موقعا باسم السادات ومكتوبا بكليشيه بخط يده.. وقد ظل يوسف ادريس يعمل مع السادات في 'الجمهورية' حتى اصطحبه معه الى 'المؤتمر الاسلامي' الذي كان السادات يشرف عليه ايضا، ليتفرغ لتأليف ثلاثة كتب حملت اسم السادات كمؤلف، واعتبرها يوسف ادريس مهمة وطنية عليا.

في تلك الفترة توثقت علاقة ادريس بالسادات. وكان يتردد عليه بانتظام في منزله بالهرم. وايامها طلبت احدى دور النشر البريطانية من السادات ان يضع كتابا عن 'القصة الداخلية' لحرب السويس، فأوكل هذه المهمة ليوسف ادريس ايضا، فألف هذا الاخير الكتاب ثم تمت ترجمته الى اللغة الإنكليزية في مكتب شهدي عطية الشافعي احد قادة الشيوعيين. كما ألف يوسف ادريس للسادات كتاب 'معنى الاتحاد القومي' سنة 1958 الذي قامت فكرته على التضامن بين الطبقات والفئات وعلى ما سمي يومها الاشتراكية الديموقراطية التعاونية.

وقد كان كل ذلك مستغربا للوهلة الاولى من كاتب يساري، بل شيوعي عضو في منظمة 'حدتو' المتطرفة السرية، طالما عرف قبل هذه 'الألفة' القوية مع عضو مجلس قيادة الثورة انور السادات، بانه سجن قبل ذلك مباشرة على يد النظام الناصري، وبانه كان من ألد اعداء هذا النظام. فهو عضو بارز في 'حدتو'، كما هو في مجموعة الكتاب اليساريين الواعدين يومها. ويبدو ان ما جعل يوسف ادريس ينتقل على هذا النحو من اليسار الى اليمين له عدة اسباب منها عشقه للنجومية وجشعه للمال والضوء. فبعد ان قرر اتخاذ الكتابة حرفة، وتبين له انه لن يكون سوى طبيب عادي إذا ما قرر امتهان الطب، علم السادات بأمره، فرتب له وظيفة بلا عمل فعلي في وزارة الارشاد القومي، ثم عينه مساعدا له في 'المؤتمر الاسلامي' بعد تركه جريدة الجمهورية.

ويروي الفريد فرج ان يوسف ادريس جاء يوما لزيارته في جريدة الجمهورية، فكان الفريد فرج يشترك مع احمد رشدي صالح في ادارة القسم الثقافي بالجريدة، فطلبا من رئيس التحرير (وكان يومها الشاعر كامل الشناوي) استكتاب يوسف ادريس قصة شهرية بالجريدة مقابل اجر قدره 25 جنيها، وهو مبلغ مهم يومها وسعد يوسف ادريس بالتكليف وبالاجر، وقال في حماسة: 'لو انني استطيع ان اتفرغ للادب واترك وظيفة طبيب صحة الدرب الاحمر'!

والواقع ان من يدرس سيرة يوسف ادريس يدهش لهذا التناقض الحاد الذي حكم ليس بداياته الادبية والذاتية وحسب، بل حياته كلها، فبعد مرحلة الالتزام اليساري الاولى التي لم تدم طويلا، اخذ يبحث عن المال والشهرة غير آنف في طلبهما من اي جهة من الجهات، سواء مصرية او غير مصرية، ففي مصر رأينا انه كان يساريا او شيوعيا، ومعاديا لثورة 23 يوليو ولدرجة دخوله السجن ثمنا لمواقفه السلبية منها، ثم رأيناه بعد ذلك يعمل كاتبا مأجورا لدى انور السادات يكتب له المقالات ويؤلف الكتب وينقله السادات معه من هذا المنصب الذي يتبوأه الى ذاك، ثم يخاصم السادات بعد ذلك، ويلجأ الى القذافي مستعطيا مرتزقا، وكذلك الى صدام حسين ينال منه الجوائز، ثم يتركهما بعد ذلك هاجيا متنكرا لما منحاه اياه من مال وغيره تبعا للمزاج العام السلبي يومها من الاثنين.

ومن عرف يوسف ادريس في مرحلته الثانية وهي مرحلة التنكر لليسار وانفصاله التام عنها، بل وعدائه لها، يحار في البداية في تفسيره لكل ما كان، فاذا تعمق في دراسة الاسباب والظروف لم يجد سوى عشق يوسف للنجومية والمال، فمنظمة 'حدتو' قادته الى السجن و'اليسار' كله لم يؤمن له على مدار علاقته به، ما امنته له قصة قصيرة ينشرها كل شهر في جريدة كبرى من جرائد الثورة وهاهي ظروف التعاون الجديدة مع رجال ثورة يوليو ترفعه الى الواجهة وتجعل منه نجما من نجومها ومن نجوم الادب في مصر، فهل يترك كل ذلك ليتحول الى مجرد عضو في 'حدتو' او الى كاتب يساري ينتقل من سجن الى آخر؟

ويبدو ان عشقه للحياة، وللحياة الرغدة البورجوازية، جعله يدفن، والى الأبد، كل تلك الكليشيهات الايديولوجية الجامدة التي حفظها زمن 'حدتو'. ولم يخطئ أدوار الخراط عندما كتب مرة 'ظل يوسف ادريس يهب على حياتنا الثقافية والأدبية والاجتماعية طيلة اربعة عقود كما تهب العواصف، أو زوابع الخماسين أحيانا.. تدفعه وتحفزه دون توقف عرامة عضوية ونفسية معا، وشجاعة الاقتحام، وشهوة احتلال الصدارة، والاستئثار بموقع فريد تحت الاضواء، وحرارة الاقبال على العب من الحياة عبا نهما'.

وتسلم محمود أمين العالم الخيط من ادوار الخراط، فقال ان يوسف ادريس جعل من ممارسة حياته نفسها، وبشكل ارادي واع جسور، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، مجالا حميما للتجريب والغوص والمعاناة والمصادمة بهدف اكتشاف جوهر الطبائع والدلالات والقيم، والامكانات والأشواق الخافية في اغوار النفوس وفي تشابك العلاقات والاوضاع الاجتماعية والإنسانية عامة.. الغوص والالتحام والمصادقة كانت بعض مناهجه في المعرفة. ولم يكن الأمر يتم افتعالا وتصنعا، بل كان ينبع تلقائيا برغم ارادته له ووعيه به.

ويضيف محمود العالم: في لقاء قديم معه بين كوكبة من الاصدقاء، كنا نحتفل بمناسبة تتعلق به. وقف كل واحد منا يتحدث عن يوسف ادريس. واذكر اني قلت له: انك يا يوسف تذكرني دائما 'بفاوست' الذي يدفعه حبه للمعرفة والامتزاج بها الى مغامرات يمكن ان تتجاوز كل حدود ممكنة أو مألوفة، الا انك لا تفقد ذاتك ابدا في هذه المغامرات، وانما تخرج من كل مغامرة معرفية ـ مهما طالت ومهما كانت طبيعتها ـ بكنوز من الخبرة التي تغذي بها ابداعك الأدبي.. ويقول محمود أمين العالم ان شطحاته الشخصية كانت مصدرا يستقي منه الهامه الفني، وكان يقدم حياته قربانا لشيطان الابداع، لكنه ما كان يفقد ابدا وعيه الفكري والتزامه الوطني والاجتماعي، أو يبتذل موهبته الفنية.

ومع انه كان 'رجل' السادات، كما رأينا، الا ان السادات انقلب عليه في مرحلة لاحقة، وعلى التحديد عام 1973. انقلب السادات عليه وعلى حوالي مائة كاتب فصلوا من اعمالهم في بداية عام ،1973 لكن يوسف ادريس اعتبر نفسه المستهدف الوحيد، وظلت تطارده عقدة الاضطهاد، وقد ازداد مع الوقت احباطا واسرف في البحث عن مقومات التوازن بين داخله وخارجه، وبين الوجه والأقنعة بينه وبين الدولة، وبينه وبين المجتمع، وبينه وبين نفسه، وقد استنزفه البحث عن التوازن المفقود، سواء بالامراض التي تكثفت مطاردتهاله، او في محاولات التخفيف من الالم.

ومع الوقت توسعت خصوماته المجانية مع تيارات سياسية لم يستهدف اصلا الاساءة اليها، ومن ثم كان المشهد في بعض الاوقات عبثيا.. حصار من جميع الاتجاهات، وحرب على كل الجبهات، وكأنه ضد الجميع، وكأن الجميع ضده! وفي اوقات اخرى، كان يبدو على العكس وكأنه مع الجميع.. وفي اوقات ثالثة كان لا يدري ما اذا كان ضد او مع وكأنه يخفي نفسه عن الجميع خوفا او استرضاء. لم يفهم احد لماذا اصبح عضوا في حزب الوفد في احدى اللحظات، ولماذا استقال فجأة من الوفد.. لماذا ايد الخطوات السياسية للرئيس السادات ثم عاد وسحب هذا التأييد في كتابه 'البحث عن السادات'!

وكانت حروبه احيانا شبه يومية. فالشيخ متولي الشعراوي يتهمه في دينه. واشتمل الموقف غضبا على الكاتب الذي اصبح دمه مهدرا، فلم يعد ثمة مفر من الاعتذار والتراجع علنا على صفحات 'الاهرام'!
واتهمه وزير الاعلام محمد عبدالحميد رضوان بالاغماء الفعلي تحت وطأة المخدر الذيدأب على تناوله. ولم يكن امام يوسف ادريس من ملاذ سوى القضاء الذي حكم لصالحه ضد الوزير!

وحاكمه المجلس الاعلى للصحافة على كتابه 'البحث عن السادات' وعلى انتقاداته اللاذعة لحرب اكتوبر 1973 وفيها ما يمس القوات المسلحة.
واقام الدنيا واقعدها عندما فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل معتبرا انه الاجدر للفوز بها، وانه لو فاز بها لاستخدمها اداة نضالية ضد الاستعمار والامبريالية واسرائيل.. وذكر صراحة ان نجيب محفوظ فاز بالجائزة بسبب دعوته علنا للصلح مع اسرائيل!

ولانه انقطع انقطاعا تاما عن كتابة القصة والرواية في سنواته الاخيرة، فقد اعتبر كثيرون ان ذلك شكل دليلا على نضوب ابداعه الادبي، خاصة وانه انصرف الى كتابة مقالاته الاستفزازية في 'الاهرام' على مدى عشرين عاما، دون ان يصدر له سوى مجموعة قصصية واحدة اسمها 'العتب على النظر' اعتبرها الباحثون نوعا من 'كناسة الدكان' على حد تعبير يحيى حقي، او تجميعا متأخرا لما كان قد كتبه في مراحل سابقة ولم ينشره من قبل.

على ان الكثيرين يرون ان اكثر ما بقي من يوسف هو قصصه القصيرة قبل اي شيء آخر. فقد كان الفارس الاول للقصة القصيرة، وربما عبر تاريخ القصة القصيرة المصرية كله. ولان قصصه القصيرة كانت تشغل وضعا محوريا في نتاجه، فان هناك عددا من مسرحياته، منها 'جمهورية فرحات'، و'المهزلة الارضية' و'الجنس الثالث' كانت قصصا قصيرة في الاساس. كما انه كان يقول ان كثيرا مما عرف من إنتاجه على انه روايات، ليس بروايات، وانما قصص قصيرة طويلة.