د. عبدالله المدني
الفقر ليس عيباً، إنما العيب هو ألا نعترف بوجوده في مجتمعاتنا، فإن اعترفنا بوجوده، فالمعيب هو ألا نفعل شيئاً لمكافحته. ومن هنا، فإن الزيارة التي قام بها مؤخراً إلى البحرين quot;أبو الفقراءquot; البروفسور البنجلاديشي محمد يونس، حملت دلالات كثيرة وأعطت مؤشرات مهمة، رغم تشكيك البعض في صلاح تجربته لمجتمعاتنا المختلفة في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية عن مجتمعات جنوب آسيا.
فالزيارة التي جاءت بدعوة رسمية للاطلاع على التجربة الفريدة لهذا الإنسان الذي استطاع أن يحرر ملايين البشر داخل بلاده وخارجها من الفقر والعوز والبؤس والارتهان للمرابين، وأن يصدر نموذجه المتجسد في بنك الفقراء quot;غرامينquot; إلى أكثر من مئة دولة، فاستحق معها جائزة نوبل للسلام لعام 2006، هي أولاً اعتراف رسمي بوجود ظاهرة الفقر المدقع. وهي ثانياً اعتراف بفشلنا في مكافحته بالوسائل والسياسات التقليدية القائمة على الصدقات والزكوات والتبرعات والصناديق الخيرية من تلك التي لم تعالج المشكلة من جذورها بقدر ما سكنتها، بل بقدر ما رسخت ظاهرة التسول والاستجداء، فسهلت بالتالي لقوى الإسلام السياسي أن تقتات جماهيرياً عليها. وهي ثالثاً مؤشر على وجود توجه رسمي جاد للاستفادة من تجارب المجتمعات الشرقية الفقيرة الأخرى دون حساسيات أو اعتداد كاذب بالذات.
صحيح أن لكل مجتمع سمات وظروفاً تختلف عن السائد والمتوطن في المجتمعات الأخرى، وبالتالي فإن تجربة ناجحة في مكان ما في حقل من الحقول، لا يمكن تطبيقها في مكان آخر عن طريق النسخ الكربوني. غير أن الصحيح أيضاً، هو أن الأفكار والوسائل التي تنطوي عليها تلك التجربة بالإمكان استيرادها وتلقيحها وتهيئتها لتلائم أوضاع مجتمعات أخرى إذا ما وجدت الإرادة الصادقة والرؤى الخلاقة. وهذا ما فعلته أقطار كثيرة أقوى اقتصاداً وأقل فقراً وأكثر تمدناً من بنجلادش، بما فيها الولايات المتحدة، يوم راحت تستنجد بالبروفيسور يونس وتجربته الرائدة في بلده.
أما الحقيقة المغيبة إعلامياً في تجربة الرجل، فهي أنه حينما بدأ من الصفر وبالاعتماد على قدراته الذاتية المتواضعة في تأسيس مصرف quot;غرامينquot;، لم يسع فقط إلى تحرير مواطنيه من الفقر، وإنما أيضاً سعى بالتزامن إلى تحريرهم من جملة من الخرافات والعادات الاجتماعية السقيمة. والشق الأخير ربما كان أهم من الشق الأول لسبب بسيط هو أن الفرد في المجتمعات الشرقية مُكبل بالكثير من العادات والقيم والأساطير البالية التي تحد من انطلاقه، وتقتل فيه روح الطموح والجرأة والإقدام وترسخ فيه نزعة التوكل والقناعة بظروفه البائسة. ولعل ما يدلل على هذا هو الكم الكبير من الأمثلة الشعبية الدارجة التي تقدم عندنا للناس على أنها من جواهر الحكم (بكسر الحاء وفتح الكاف)، ابتداء من مقولة quot;القناعة كنز لا يفنىquot; وانتهاء بمقولة quot;تجري جري الوحوش، غير رزقك ما تحوشquot;.
ويكفي هنا أن نشير بإيجاز إلى أن القروض التي يقدمها مصرف quot;غرامينquot; إلى الفقراء من دون ضمانات مالية لتأسيس مشاريعهم الخاصة المدرة للدخل، تشترط التزام المقترض بحفظ وتطبيق جملة من المبادئ والقيم، تحت طائلة إلغاء القرض في حالة المخالفة. من هذه المبادئ: الانضباط ، والدأب، واحترام الوقت، ورفض الظلم للنفس أو للآخرين، ومساندة الآخر في أوقات الشدائد، والمحافظة على البيئة، والالتزام بقواعد الصحة العامة، والمشاركة في جهود إصلاح ما تدمره الكوارث الطبيعية، واستخدام الغذاء الصحي كالحبوب والخضروات، وممارسة الرياضة البدنية الخفيفة. هذا فضلاً عن مقاومة تلك العادة الاجتماعية المرذولة السائدة في مجتمعات جنوب آسيا ممثلة في دفع المرأة لمبلغ مالي للرجل الذي سيتزوجها على سبيل المهر.
وحينما يأتي ذكر المرأة، فإن تجربة البروفيسور يونس كان لها دور محوري وطليعي على صعيد تحرير النساء، ليس من الفقر والبؤس فحسب، وإنما تحريرهن أيضاً من الخوف والتردد والاستسلام للهيمنة الذكورية والرضوخ للعادات المقيدة لدورهن الطبيعي في المجتمع إلى جانب الرجل. وهو بتركيزه الشديد على أن تكون الأولوية هي للنساء في الاقتراض من مصرف quot;غرامينquot;، لم ينطلق فقط من حقيقة أنهن يشكلن نصف المجتمع أو لأنهن قوة عمل مهملة أو لأنهن فقيرات ويتحملن العبء الأكبر في الأسرة، وإنما أيضاً لأن تجربته العملية أعطته مؤشراً على أن النساء بصفة عامة أكثر التزاماً وجدية، وعلى أن الفوائد المتحققة للأسر تكون أكبر حينما يكون التحسن في دخلها متأتياً من تحسن دخل المرأة. ذلك أن عاطفة الأمومة تجعل تأمين متطلبات الأطفال من الغذاء والكساء والدواء في قمة سلم أولويات المرأة بينما الرجل لديه في العادة سلم مختلف للأولويات.
ومن هنا تحرص المرأة أكثر من الرجل على المثابرة والتوفير وعدم الإسراف وتنمية الدخل والوفاء بالتزاماتها. وهذا بطبيعة الحال أحد الأسباب التي جعلت نسبة النساء من إجمالي عملاء مصرف quot;غرامينquot; تتجاوز 90 في المئة.
غير أن هذا ليس كل شيء في تجربة يونس الفريدة. فهناك أيضاً ما تأسس وترسخ من قواعد وأساليب في كيفية الإدارة الناجحة للمؤسسات المعنية بانتشال المهمشين والفقراء من قاع المجتمع. فمصرف quot;غرامينquot; لم يكتف بمكافحة الفقر والترويج لبعض القيم الجميلة على نحو ما أسلفنا، وإنما استحدث أيضاً نظاماً إدارياً يعطي أهمية قصوى لعملية الإبداع والنقد الذاتي، وتطوير آليات حل المشاكل وتبادل الأفكار واختراع الحلول، والتمرن على الحوار والتفاعل والمناظرة، وإعطاء الأولوية لتحقيق الأهداف النبيلة وليس للتقيد بالإجراءات الإدارية، والتعامل مع المتغيرات بمرونة شديدة، وغير ذلك مما خلق له وضعاً فريداً وأخرجه من قائمة المصارف التقليدية الصارمة في أنظمتها والجشعة في أهدافها.
ويكفينا على سبيل المثال الإشارة إلى كيفية تعامل مصرف quot;غرامينquot; مع أية فكرة جديدة قد تخطر على بال أحد موظفيه. حيث بإمكان صاحب الفكرة أن يرفعها إلى مديره المباشر ليرفعها هذا الأخير إلى رئيسه وهكذا، لكن إيمان المصرف بضرورة الإبداع والمبادرة، وبأهمية ألا تترك الأفكار الجديدة لتموت في القنوات البيروقراطية المعتادة، دفعه إلى إصدار صحيفة أسبوعية داخلية تُتداول فيها الأفكار الجديدة بحرية، ويضمن وصولها إلى كل مستويات القرار. إلى ذلك يسمح المصرف لمديري القطاعات فيه بتطبيق الأفكار والبرامج الجديدة دون معوقات، لكنه يشترط عليهم قبل تعميمها أن تجرب في فرعين في وقت واحد لتقليل أهمية العوامل الشخصية والمحلية.
نتمنى أن يكون قرار الاطلاع على تجربة البروفيسور يونس والاستفادة محلياً منها خطوة عملية أولى نحو استلهام تجارب أخرى -ولاسيما في حقل التعليم المتطور- من آسيا الزاخرة بالدروس التنموية المدهشة.
التعليقات