الخميس 22 فبراير 2007

د. أحمد عبد الملك

عندما صحا المجتمع العربي في الخليج -في بداية التسعينيات- على حقيقة الفضائيات، وتتابع إطلاقها في السماء العربية، كان الهاجس السياسي والاقتصادي دَيْدَنَ أولئك الذين يملكون المال اللازم لإطلاق تلك الفضائيات.

وعلى غير المتوقع، فإن توفر القطاع الفضائي -وحجز قنوات على القمر- هو كل ما تحتاجه بعض الفضائيات، التي يمكن أن تبث من شقة أو ثلاث غرف. وزالت الصور القديمة التي كانت موجودة في ذهن الإعلاميين، من أن البث الفضائي يحتاج إلى تجهيزات ضخمة، وميزانيات كبيرة جداً. ونجد اليوم، أن بعض الفضائيات -غير التابعة للحكومات- يمكن أن تُقيم أودَها رسائل (SMS) التي يبعث بها المتسابقون والمؤيدون للمطرب أو المتسابق الذي يحبونه. وإذا كانت بعض الفضائيات التي صُرف عليها بسخاء قد استقطبت مهنيين من داخل وخارج الوطن العربي، فإن التنافس الملحوظ بين بعض الفضائيات هو الآخر أدار حرباً واسعة في سوق المحرِّرين والمعدِّين والمقدِّمين. وصارت أدنى مذيعة -قد لا تدرك نحو اللغة وصرفها- تنتقل بين هذه المحطة وتلك، على اعتبار quot;الاستقطابquot; لا لكفاءة تلك المذيعة.

ولوجود quot;الخير النفطيquot; وجدنا أن بعض المحطات يصرف مبالغ طائلة لموظفيه، ويعيّن من الموظفين -في بعض الحالات- من لم يتأهلوا ليكونوا في تلك المناصب. والأغرب أن جلّ هؤلاء لا يمتلكون نصف المؤهلات التي يحملها المواطنون في سوق الإعلام. وهذا ما أدى إلى quot;امتعاضquot; مواطني دول الخليج من تلك الأموال المهدورة التي لا يصلهم منها شيء، حتى صار التندُّر بأن راتب حامل الدكتوراه يعادل ثلث راتب مذيعة في فضائية عربية خليجية.

ونظراً لانشغال بعض أصحاب القرار الرسمي في متابعة سياسات عليا في المحطات، تُرك أمر التعيين والتوظيف بيد المديرين التنفيذيين -الذين هم بشر- وليس لهم إلا تضمين الجانب الإنساني في تلك التعيينات. فظهرت ظاهرة التوظيف العائلي، أو الوطني (حسب جنسية صاحب القرار التنفيذي، وقدرته على إقناع أصحاب القرار الرسمي). ولقد وصل عدد المستشارين -الذين تم جلبهم من الخارج في إحدى الفضائيات إلى 4 أشخاص- يتقاضى كل منهم راتباً مضاعفاً على راتب موظف مواطن قضى 30 عاماً في الخدمة! ونقصد الخدمة الإعلامية!

أما الإشكالية الكبرى في الفضائيات فهي الصرف غير المحدود على البرامج، فلقد استقطبت بعض الفضائيات العربية أصحاب مؤسسات إعلامية في الخارج، وذلك لضرورات مصالحية، حيث فرض هؤلاء أن تكون المواد التي تنتجها شركاتهم مُمولاً رئيسياً لبرامج تلك القنوات، وصارت البرامج والتقارير تترى. فمن تقرير تُدفع لصاحبه ألفا دولار، إلى تقرير تُدفع لصاحبه 5 آلاف يورو. (ملاحظة: اليورو أعلى من الدولار).

إن هذا الاستنزاف لبعض المحطات العربية في الخليج لا يمكن أن يظهر على السطح، أيضاً لضرورات مصالحية ومكتسبات مالية. وقد يأتي وقت تكتشف فيه تلك المحطات المسكونة بالفساد الإداري، ولكن متى؟ بعد خراب البصرة!

إن الهجمة الشرسة على ريع النفط قد بدأت عبر الصحف الصفراء التي كانت تصدر في بعض العواصم الأوروبية، حيث تبارى أصحاب القُصاصات والمنشورات التي كانت تطبع بأدنى مستوى فني في شوارع لندن وباريس الخلفية، بواسطة quot;قطاع طرقquot; عرب لفظتهم بلدانهم، ولم يجدوا إلا ابتزاز السفارات الخليجية، إما عبر المدح، أو الذم!

ولما تنبهت بعض الدول الخليجية لحقيقة تلك الصحف الصفراء وأوقفت دعمها، كون هذه الصحف تخلق أجواء الشحن والكراهية التي تحاول القمم الخليجية طردها من البيت الخليجي، جاء دور الفضائيات، ونشط تجار الشنط من أوروبا وأميركا، وبدأوا مناورات، اعتماداً على خلفياتهم وصداقاتهم مع البعض، وتم عقد الصفقات، وقبول العروض في منأى عن المهنية أو حتى مراجعة السّير الذاتية (C.V) لهؤلاء.

نحن لسنا ضد الخدمة الراقية التي تستحق لها مردوداً ملائماً، ولسنا ضد الإعلاميين أصحاب المهنية والمبدعين، لكننا حتماً نكون ضد الذين يستنزفون أموال النفط. ويفرضون شروطاً قاسية لتمرير بضائعهم ومنتجاتهم على المستهلك الخليجي.

فبالله عليكم، كم تقريراً تحتاجه محطة من المحطات في اليوم؟ هل نفترض أنها تحتاج عشرة تقارير -غير إخبارية- وإذا ما ضربنا الـ10 تقارير في 5 آلاف يورو، فإن النتائج ستكون 50 ألف يورو (أي 235.000 ريال فقط لتقارير عادية جداً عن الحياة والتجميل والأناقة). هل من المعقول أن تفتح خزائن النفط لمثل تلك التقارير لأن موظفاً كبيراً (وافداً) يمتلك شركة إنتاج في عاصمة أوروبية؟ وهل هذا الموظف يمكن أن يكون quot;فلتةquot; زمانه، بحيث تتحمل المحطة تكاليف شركته وتمويلها إضافة إلى راتبه الشهري الذي يزيد على رواتب أربعة من أصحاب الخبرة التي لا تقل عن 30 عاماً في مجال الإعلام؟

وعلى الجانب الآخر، ما هو العائد المأمول من صرف كل تلك الأموال؟ هل قامت جهة محايدة بتقييم البث الفضائي لتلك المحطات؟ هل قامت جهة بمتابعة فواتير تلك الشركات التي تضع الرقم الأعلى، وليتم تمرير تلك الفواتير (كرمال عيون صاحب الشركة)!

نذكر عندما كنا نطالب -في السبعينيات- بمبلغ 1500 ريال لقاء الإعداد والتقديم -بما في ذلك التقارير الموجودة في البرنامج- تتم مساءلتنا على كل ريال، بل وعلى المبلغ الذي يدفع للضيف، وهو 300 ريال!

أين نحن اليوم مما يجري؟ هل القضية قضية وقت، ومن يقتنص الفرصة هو الفائز؟ وهل القضية قضية quot;عقدةquot; الوافد، أو صاحب الشنطة الذي يتقن وضع عقد عمله مع عقد عمل شركته؟

وهل القضية قضية quot;تغافلquot; عن دور الإعلامي الوطني المؤهل، الذي يُودع مخازن التقاعد، وهو في منتصف الأربعينيات، لكي يُفسح المجال لمن تجاوز الخمسين بسنوات، ويؤنس لأحاديثه ومبرراته، بينما يتم quot;إخراسquot; المؤهل الوطني؟

قضية الصرف على الفضائيات الخليجية تحتاج إلى وقفة، وهدير البرامج والتقارير -المفيدة وغير المفيدة- التي تبث والتي لا تبث، والتي تأتي من الشركات الخارجية تحتاج إلى وقفة. وقضية تقييم أداء بعض الفضائيات التي يُصرف عليها بسخاء أيضاً تحتاج إلى وقفة!

نحن نعلم أننا نتحدث... وهم يفعلون ما يشاءون، وتلك قضية أيضاً تحتاج إلى وقفة!