د. سعد الدين إبراهيم
عدت زائراً لبيروت أيام ١٥-١٧/٢/٢٠٠٧، أي بعد شهر من زيارة سابقة (٨-١٢/١)، في الزيارة الأولي كنت أصحب طلابي من الجامعة الأمريكية وباحثي مركز ابن خلدون في القاهرة، وكانت بيروت وقتها في أسبوعها السادس من المواجهة السياسية ـ الشعبوية، بين فريق من المعارضين يتزعمهم حزب الله (ذو القاعدة الشيعية)، ومعه فرقاء من كل الأطياف والطوائف اللبنانية الأخري ـ مسيحية (ميشيل عون وآل فرنجية)، وإسلامية سنية،
وإن كانت بأعداد أصغر، واختار معسكر المعارضة هذا سلاح العصيان المدني السلمي، وذلك بالاعتصام في أكبر ميادين العاصمة ـ ساحتي الشهداء ورياض الصلح، وفي تلك الزيارة التقينا وتحاورنا مع كل فصائل المعارضة،
وأهمهم علي الإطلاق الزعيم الملهم لحزب الله، السيد حسن نصر الله. كما التقينا رئيس الجمهورية (إميل لحود) ورئيس مجلس النواب (نبيه بري)، وقيادات الفريق الآخر الموالي لحكومة فؤاد السنيورة، ذي القاعدة السُنية، وإن كان يضم أيضاً بدوره أطيافاً وطوائف في كل ألوان قوس القزح اللبناني ـ بمن فيهم سعد الدين الحريري (تيار المستقبل)، وسمير جعجع (قائد القوات اللبنانية) وآل الجُميل (حزب الكتائب) ذو القاعدة المسيحية المارونية، وقد انبهر طلابي في الزيارة السابقة بثلاثة أشياء:
.. الشيء الأول، هو سلمية المواجهة. فرغم مئات الآلاف الذين شاركوا في الاعتصام، وعلي مقربة أمتار من مقر سراي مجلس الوزراء الذي يشغله رئيس الوزراء، وتحيط به حراسة مكثفة، إلا أنه لم تقع أي احتكاكات تذكر. بل إن جواً احتفالياً مرحاً ساد الخيام التي نصبها، وأقام بها المعتصمون من المعارضة.
.. الشيء الثاني الذي انبهر به الطلاب هو أنه رغم الاستقطاب السياسي الشديد بين معسكري laquo;المعارضةraquo; (الذي يقوده حزب الله) وlaquo;الموالاةraquo; أو الحكومة (الذي يقوده تيار المستقبل)، إلا أنه لم يكن استقطاباً دينياً ـ أي كل المسلمين في جانب، وكل المسيحيين في الجانب الآخر، مثلما كان الحال في الصدامات المسلحة للحرب الأهلية الأخيرة (١٩٧٥-١٩٩٠)، بمعني أن كل معسكر كان يضم عناصر من كل الأديان والطوائف والمذاهب.
.. الشيء الثالث الذي انبهر به طلاب الجامعة الأمريكية ومركز ابن خلدون، هو أنه رغم الشلل الذي أصاب قلب العاصمة اللبنانية، إلا أنهم تجولوا في كل أرجائها، بل في كل أرجاء لبنان، بما في ذلك الجنوب الذي تعرض في الصيف السابق لدمار هائل بواسطة سلاح الطيران الإسرائيلي، أكثر من ذلك أنهم وجدوا أن مستوي الخدمات وأداء المرافق العامة أفضل بكثير منها في بلدهم مصر، التي لم تشهد حروباً منذ عام ١٩٧٣، أي قبل ٣٤ عاماً.
كانت زيارتي اللاحقة لغرض آخر، وهو اللقاء مع عدد من منظمات المجتمع المدني العربية ـ مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت)، ومركز دراسات الإسلام والديمقراطية (واشنطن)، واللجنة القطرية لحقوق الإنسان (الدوحة)، ومركز ابن خلدون (القاهرة)، وذلك بغرض التحضير laquo;للملتقي الثاني للديمقراطية والإصلاحraquo;.
وكان الملتقي الأول قد عُقد في ربيع ٢٠٠٤، أي قبل ثلاث سنوات. والطريف أن المشاركين من بلدان وجهات مختلفة، لم يجدوا مكاناً وسطاً يسهل اللقاء فيه دون تعقيدات بيروقراطية (تأشيرات دخول) أو تأخيرات وتغييرات في المطارات وشركات الطيران، أو صعوبات في حجز الفنادق، أفضل من بيروت،
هذا رغم أن نفس الاعتصام الذي كنت شهدته قبل شهر، كان لايزال قائماً ـ أي أنه دخل أسبوعه الحادي عشر، حيث إن المعارضة لاتزال علي إصرارها بإسقاط حكومة السنيورة، أو زيادة نسبة وزرائها في حكومته (الثلث +١)، أو إجراء انتخابات جديدة. والحكومة بدورها لاتزال علي موقفها برفض الاستقالة، ما دامت تتمتع بأكثرية من المؤيدين في مجلس النواب.
وقد تزامنت زيارتي الأخيرة مع حدثين للمشهد اللبناني المتغير. الحدث الأول، هو الذكري الثانية لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري (١٤/٢/٢٠٠٥)، وهو الحدث الذي هز لبنان، والمنطقة العربية والعالم، وما زالت تداعياته تتوالي، حتي وقت كتابة هذا المقال، بما في ذلك الاستقطاب الحالي بين المعارضة والحكومة، علي نحو ما لخصناه أعلاه،
فإحدي مسائل الاستقطاب الحالي، هي المحاكمة الدولية للمشتبه فيهم وراء اغتيال الحريري، والذين تفوح الشبهات حول أنهم سوريون أو لبنانيون من عملاء النظام البعثي الحاكم في سوريا ـ وتتهم حكومة السنيورة المعارضة أنها تصر علي زيادة نسبة مشاركتها في الحكومة من أجل تعويق المحاكمة، إنقاذاً لماء وجه النظامين السوري والإيراني، المتحالفين مع أقطاب المعارضة (حزب الله وميشيل عون وآل فرنجية).
وانتهز المعسكر الموالي للحكومة (تيار المستقبل) مناسبة الذكري الثانية لاغتيال الحريري لتنظيم مظاهرة حاشدة طافت حول مثوي الرجل، وتحدث أقطاب معسكر الموالاة في المظاهرة ـ نجله سعد الحريري، وجنبلاط، وجعجع، والجُميل.
وندّدوا جميعاً بالنظام السوري وحلفائه وأعوانه وعملائه في لبنان، وبعد يومين ـ في أعقاب صلاة الجمعة ١٦/٢ ـ تجمع مئات الآلاف من أنصار حزب الله، في أحد معاقلهم، وهو مجمع سيد الشهداء، في ضاحية بيروت الجنوبية، وقد خاطب السيد حسن نصر الله، الجموع الغفيرة، والتي جاءت أيضاً للاحتفال بذكري اثنين من قيادات حزب الله، اللذين كانا قد سقطا في مواجهات سابقة مع إسرائيل ـ
وهما عباس الموسوي (الأمين السابق لحزب الله) والشيخ راغب حرب، (أحد قيادات الحزب)، ولم يفوّت السيد/ حسن نصر الله الفرصة، فرد علي ما سبق أن صرّح به قادة معسكر الموالاة قبل يومين (الأربعاء ١٤/٢) وندد بعلاقاتهم المريبة مع أعداء لبنان (أمريكا وفرنسا وإسرائيل)، ولكنه ترك الباب موارباً laquo;لمصالحة مشرّفةraquo;، تحفظ الحقوق والكرامة لمن يقاومون دفاعاً عن الوطن لبنان.
وقد حرصت في هذه الزيارة، كلما سنحت لي الفرص ـ فيما بين الاجتماعات التي ذهبت إلي بيروت من أجلها ـ أن أتحدث إلي أكبر عدد من المواطنين العاديين والمثقفين اللبنانيين، حول الأوضاع في بلدهم الجميل، الذي أصاب الشلل قلب عاصمته بيروت،
وقد وجدت استقطاباً مشابهاً. فمعظم من صادفتهم من خلفيات اجتماعية متواضعة ـ العاملين في المطاعم والفنادق وسائقي التاكسي، كانوا أكثر تعاطفاً مع laquo;السيدraquo; (أي حسن نصر الله)، حتي من أضيروا في معاشهم بسبب الاعتصام الممتد، أما المثقفون والنساء، حتي الذين كانوا يؤيدون حزب الله أثناء مواجهته مع إسرائيل خلال صيف ٢٠٠٦، فإنهم بدأوا يتبرمون أو ينتقدون laquo;السيدraquo; صراحة،
ويقولون إنه تجاوز الحدود، فيما يقولون إنه قواعد اللعبة اللبنانية السياسية، والأكثر وعياً وخبرة بين هؤلاء المثقفين يقولون إن زملاء عديدين لهم من أفضل العقول والخبرات يهاجرون من لبنان الآن بمعدلات تتنافس مع هجرة الطبقة المتوسطة العراقية من العراق. الأولي ضجراً من الشلل والثانية هروباً من الموت، ثم يضيفون أن laquo;مفاتيح اللعبةraquo; الآن هي خارج البلدين ـ لبنان والعراق، فأين هذه المفاتيح؟ يقولون إنها في إيران وسوريا، والسعودية وأمريكا وفرنسا، وهم في لبنان ينتظرون أو يصلون، أو يبحثون عن فرص للهجرة إلي خارج الديار.
والمبكي والمضحك في كل ذلك هو أننا ـ الداعون والنشطون من أجل الديمقراطية ـ ما زلنا نجد في لبنان laquo;أملاًraquo;، لا من أجل البلد وأهله فقط، ولكن نجد فيه أيضاً حلماً بوطن عربي حر ومتحد، وبعالم إسلامي تتعايش فيه الطوائف مع بعضها البعض، ويتواءم فيه المسلمون مع أبناء الديانات الأخري السابقة واللاحقة، وهكذا رغم كل ما يتفاعل ويتصارع داخل لبنان وحول لبنان، يظل لبنان الديمقراطي الحر، هو التحدي من أجل laquo;استنساخraquo; أو laquo;استلهامraquo; عوالم أخري من حولهم ـ عربي وشرق أوسطي وإسلامي.
ولله في خلقه حكم
التعليقات