الجمعة 2 مارس 2007


د. حسن مدن

قديما قيل: الذي يقال ينسى، أما الذي يكتب فيبقى.

منذ أن ولجنا عصر الكتابة باتت كل الأشياء تكتب، حتى القول السابق للكتابة أعدنا كتابته لكي لا يضيع، لكن كم من الجهد بذله الناس ليبقى هذا القول غير المكتوب حياً؟

الشاعر الداغستاني العظيم رسول حمزاتوف يشكر بفرح أولئك الرجال الذين نقلوا إلينا كتبنا غير المكتوبة. كم من الجهد بذله هؤلاء لكي تبقى الحكمة الإنسانية حية، كأنه بالقصص والأساطير والأغاني تقول للكتب المكتوبة باليد على الورق أو المطبوعة: ldquo;نحن الكتب التي لم تكتب بقينا مئات السنين نشق طريقنا عبر المحن، وها قد وصلنا. أيتها الكتب المطبوعات بشكل جميل هل يمكن أن تصلي إلى الجيل التالي على اقل تقدير. سنرى أيهما أمانة: الكتب أم قلوب الناسrdquo;؟

يقال إن رجلا عمد إلى حرق صندوق يحوي ما كتبه ابنه الشاعر من أشعار، كان الأب يعتقد أن في الشعر غواية وضلالاً، لكن الابن استمر في غوايته: يكتب الشعر، من دون أن يبدد اعتقاد الناس أن أجمل أشعاره كانت تلك التي في الصندوق الذي حرقه أبوه الحانق.

كان ثمة مغن شعبي رخيم الصوت لا يغني إلا في أعراس البلدة، يقال انه في كل عرس يرتجل أغنية جديدة لم يغنها قبل ذلك، لذلك لم يكن بوسع أحد أن يحفظ أياً من هذه الأغاني، لذلك ظلت الناس تعتقد أن أجمل الأغاني كانت تلك الأغاني التي لم تحفظ.

كم من الأشعار والأغاني والفنون التي هلكت وانقرضت لأنها لم تسجل. من قصائد عظيمة لم يبق سوى بيت واحد، لكنه يبقى للأبد. الم تكن الخسارة ستكون أكثر فداحة لو لم يصل هذا البيت؟

ما الذي جعل هذا البيت بالذات دون سواه يصلنا وتضيع بقية الأبيات، ألأنه أجمل من سواه، ألأنه يكثف ويختزل حكمة لم تقو بقية الأبيات أن تكثفها وتختزلها؟ أم أن المصادفة وحدها من أنقذ هذا البيت من الضياع فأبقته حياً، بيتاً محظوظاً، قيل ليبقى لا ليموت. هل ما ضاع من شعر المتنبي مثلاً أهم من شعره الذي وصلنا، أم انه ضاع ومات لأنه لم يكن جديرا بالبقاء؟ وما يقال عن المتنبي يمكن أن يقال عن إبداعات وأشعار وحكايات أخرى، حين نحار في تحديد ما المعيار الذي جعل بعضها يموت وبعضها يعيش. لكن شيئاً من الحيرة قد يتبدد حين تقع أيدي الباحثين والدارسين على روائع من التراث الإنساني لم يسمع بها أحد من قبل، وهي أهملت أو اختفت أو أخفيت في ظروف قاهرة، حين تعين على واضعيها أن يخفوها عن الأعين اتقاء لبطش محتمل أو محقق، أو ببساطة شديدة إن أحداً لم يقدر في حينه أهمية هذه الروائع لأنها سبقت زمنها، فطواها النسيان، وربما نال بعضها الموت.

لكن حمزاتوف في سفره الجميل: ldquo;بلديrdquo; ينبهنا إلى أمر آخر، فالكتابة إذ غطت كل ما يكتب، حفظت الذي يستحق والذي لا يستحق، الأصيل والزائف، الموهبة والادعاء. ستبدو المشكلة هاهنا أيضا شائكة: أين هو الجواهرجي الخبير الذي يميز بين الدانة الحقيقية والدانة الصناعية.من سينخل الكتب نخلا ليرينا ما يجدر به أن يمكث في الأرض، ويعفينا من الزبد الذي يجب أن يذهب جفاء؟