سليمان جودة

يقف جمال مبارك، الآن، في وضع صعب للغاية.. فالماضي يتآمر عليه.. والحاضر ضده.. والمستقبل لا يستطيع جمال أن يخاطبه.. كيف؟!

لقد كان امتناع الرئيس من عام ٨١ إلي اليوم، عن تعيين نائب له، موقفاً أضر بجمال، وليس لصالحه، لأن الإبقاء علي موقع النائب شاغراً، سواء بقصد، أو عن غير قصد، كان ولايزال ينادي تلقائياً، علي مَنْ يستطيع أن يملأه.. وكان من حظ جمال مبارك، أن يكون هو هذا الشخص، الذي ترشحه ظروف كثيرة، ليست من صنعه، لملء هذا الموقع الشاغر!.. وحتي لو فكر الرئيس اليوم، في تعيين نائب، فسوف يكون حجم التساؤل، عن اتخاذ مثل هذا القرار، أكبر مما كان حول عدم اتخاذه من قبل.. لأن الغالبية سوف تتساءل، قطعاً، عما جد في الأمور، بما يجعل الرئيس، يضع نائباً له.. وعن الجديد الذي وجده في شخص النائب الذي عثر عليه الرئيس، فجأة، بعد انتظار ٢٥ سنة كاملة؟!

هذا، هو موقف الماضي، الذي يتآمر علي جمال!

ثم.. إن الإصرار علي تعديل المادة ٧٦، بهذا العوار فيها، حتي ولو كان القصد من ورائه إبعاد مَنْ يخلطون الدين بالسياسة، عن الترشح للرئاسة.. فإنه في النهاية، يلقي بظلال من الشك والريبة، عما إذا كان المقصود من تعديل هذه المادة بهذه الطريقة، مقصوداً به جمال، أم لا؟!.. إن عدم توافر حسن النية، في تعديل المادة ٧٦، تحديداً يجعل الحاضر يقف ضد جمال، وليس معه، أو في صالحه!!

بل إن تصميم الرئيس، علي عدم تعديل المادة ٧٧، يطرح تساؤلاً آخر من تساؤلات الحاضر.. فتعديل هذه المادة لن يضر بالرئيس أبداً.. ولكن عدم تعديلها يضر بالشعب المصري قطعاً.. ولأنه ليس هناك جواب واضح، حول موقف الرئيس، فإن جمال مبارك، وحده وبحكم موقعه الآن، يتحمل تداعيات عدم الإجابة، وتتحول هذه التداعيات، إلي عبء آخر عليه!!

وهذا، للمرة الثانية، هو موقف الحاضر منه.. وضده!!

ثم نأتي إلي المستقبل.. ماذا عنه أيضاً بالنسبة لجمال مبارك؟!

فليس سراً أن هناك زيادة صغيرة أو كبيرة في مجمل الدخل القومي.. وليس خافياً علي أحد، أن هناك حركة إيجابية، في حجم الصادرات، وليس من قبيل المبالغة، أن نقول، إن هناك زيادة ملحوظة، في دخل كل فرد.. قد لا يكون لها أثر ظاهر، في حياة الناس، ولكن هذا سببه أن هذه الزيادة، لم تصل بعد، إلي معدل الزيادة في الأسعار، وليس سببه، أنه ليست هناك زيادة من أصله.. ولا نخالف الحقيقة، إذا قلنا، إن حجم الاحتياطي الأجنبي، في البنك المركزي، شهد طفرة خلال هذه السنوات الثلاث أو الأربع،

وإن حجم الاستثمار الخارجي، قد شهد طفرة مماثلة.. مثل هذه الأمور، وغيرها، تمت في ظل وجود رجل اسمه جمال مبارك، علي رأس أمانة السياسات.. ومنذ ظهورها، قبل خمس سنوات، وهي تمتلك رغبة أمينة في إصلاح الحال.. قد تسمي هذه الرغبة أحياناً، الفكر الجديد.. وقد تسمي الانطلاقة الأولي أو الثانية.. وقد.. وقد.. ولكن المؤكد، بصرف النظر عن المسميات، أن هناك رغبة، وأنها ليست أمينة فقط، وإنما غاضبة أيضاً.. والمؤكد أيضاً، أنها لم تتوقف عند حدود الرغبة النظرية، ولكنها ارتبطت بأداء عملي معين،

خصوصاً علي مستوي المجموعة الوزارية الاقتصادية، التي اختارها، وتبناها، الدكتور نظيف، توجهاً، وعملاً، وخلاصاً.. وحاول، ويحاول نقل أدائها من أداء الأفراد، إلي أداء المؤسسات الجماعي، بما أدي، في النهاية، إلي ما طرأ في الصادرات، ودخل الفرد، والدخل القومي، والاحتياطي الأجنبي، والاستثمار الخارجي.. وليس سراً، أن أصحاب هذه الرغبة، يستميتون في التمسك بها، استماتة مَنْ يعرف واقع الحال، ويعرف أيضاً ما يجب أن يكون عليه الحال، واستماتة مَنْ يضع عيناً علي البلد، وعيناً أخري علي ما كان يجب أن يكون عليه البلد.

وكان من الطبيعي، بل ومن المتوقع، أن يتكلم جمال مبارك، عن كل هذه التحولات، والمتغيرات، وأن يقارن بينها، بالمعدلات الحالية، وبين معدلاتها السابقة، في وزارات متتالية، علي مدي ربع قرن.. غير أنه لم يفعل، ولا يستطيع، لسببين، أولهما أن المسؤول الأول والأخير، عن معدل الأداء الآن، ومعدل الأداء زمان، هو حسني مبارك، وبالتالي، فهذا، بالضبط، هو موضع الحرج، إذا أراد جمال مبارك، أن يقارن وضع اليوم، بوضع الأمس.. والسبب الثاني، أن جمال مبارك، جزء من الأداء الحالي، ويعمل من خلاله، ومن خلال وجود والده، في الحكم.. وهذا هو موضع الحرج الثاني!!

باختصار، أي تصويب من جانب جمال، يشير بالضرورة إلي خطأ كان موجوداً علي مدي ٢٥ سنة.. وأي زيادة تشير بطبيعتها إلي نقص كان قائماً.. والمسؤول عن الخطأ وعن النقص شخص واحد اسمه حسني مبارك!

ولكن.. ماذا عن الذين يحيطون بجمال مبارك؟!.. إن حوله رجال أعمال، وغير رجال الأعمال، من السياسيين، والشخصيات العامة، ونجوم المجتمع.. فهل الهدف من وجودهم إلي جواره واحد؟!

بالطبع لا.. فهناك مَنْ يريد أن يضمن تأمين استثماراته، وهناك مَنْ يبحث عن فرصة.. ومَنْ يريد أن يضاعف فرصته المتاحة أصلاً.. ومنهم ناس يدفعون ضريبة وطنية للبلد الذي صنعهم، وجعل منهم بني آدميين.. ومنهم ناس عندهم حسن نية.. وفيهم متربصون.. ولكن النسبة كم؟! الله أعلم.. فالساسة المحيطون به فيهم محترفون، وفيهم حسنو النية، وفيهم متطلعون.. وفيهم منحطون.. ولكن النسبة كم؟! الله أعلم.. ولكن المؤكد أنهم جميعاً غافلون، لأنهم يراهنون علي جمال، بينما الطريق أمامه مغلق بصيغة الماضي، والحاضر، والمستقبل.

فما الحل؟!

الذي لا شك فيه، أن احتمالات بقاء الرئيس مبارك في السلطة، لفترة سادسة، احتمالات ضعيفة.. ليس لأسباب سياسية، ولكن لأسباب أخري، منها السن.. وغيره.. وفي أقصي الاحتمالات، لو كان له أن يأخذ فترة سادسة تبدأ من ٢٠١١ إلي ٢٠١٧، ولو كان لنا أن نفترض حُسن النية في كل شيء، فلماذا لا يحاول جمال مبارك من خلال أمانة السياسات، التي اختار أن يعمل من خلالها، أن يدفع بخطوات الإصلاح علي إيقاع أسرع مما هي عليه الآن؟!.. إنه ميال بطبعه إلي أن يلفت نظر الذين يطالبون بإيقاع أسرع للإصلاح، إلي أن الإصلاح من قبل كان صفراً طوال عشرين سنة، وأنه الآن هناك خطوات إصلاحية قطعناها، مقارنة بما كان من قبل، وأخري في الطريق.

ولكن علينا أن نلتفت إلي أن صفر الإصلاح الذي ظل لفترة طويلة، هو الأدعي إلي مضاعفة سرعة إيقاع الإصلاح.. إن هناك إمبراطوريات تحولت من دولة شمولية، إلي دولة ديمقراطية.. ومن اقتصاد دولة إلي اقتصاد حر، وبدأت في جني الثمار.. روسيا مثلاً.. وقد حدث هذا في بحر عشر سنوات أو أكثر قليلاً، غير أننا لا نزال نمشي في غاية البطء، ولا تزال بديهيات الإصلاح الدستوري محل نقاش، ومحل كلام، ومحل جدل، بما لا يليق، ولا يجوز.. إن جمال مبارك في النهاية يستطيع أن يهدي مصر، كل ما توحي به نشأته والبيئة التي طلع فيها، ويستطيع أيضاً أن يهدي والده مسك الختام، إذا آمن بأن الإصلاح في مصر، خصوصاً الإصلاح السياسي، هو داء مصر، وهو أيضاً دواؤها!! وليس هناك شك، في أن الإسراع بالدواء يكون علي قدر انتشار الداء!!

علي فكرة.. أنا ضد ما يسمي التوريث.

ولكن.. المشكلة ليست أنني مع، أو ضد، ما يسمي التوريث، فليس هذا هو الموضوع.

والمشكلة ليست أن جمال مبارك متجهم وعابس الوجه.. لأن الحل سهل، وهو أن يضحك ويبتسم.

والمشكلة ليست في كثافة الحراسة حوله، لأن هذه أيضاً مشكلة أمرها سهل، وحلها ليس هناك أسهل منه!

والمشكلة ليست في أننا نريد تعجيزه علي طريقة جحا وابنه وحماره.. فعندما ركب جحا الحمار، وترك ابنه يمشي إلي جانبه، قالوا: رجل بلا قلب، وليس عنده رحمة.. وعندما نزل وجعل ابنه يركب بحيث يمشي هو إلي جواره، قالوا: رجل بلا نظر.. فاضطر أن يحمل الحمار فوق رأسه، فقالوا: مجنون.

المشكلة الحقيقية أن جمال مبارك أصبح اسمه مطروحاً ومرشحاً للرئاسة، برضاه أو بغير رضاه، بالحق أو بغير الحق.. وبالتالي فإننا يجب أن نتكلم معه بطريقة أخري تماماً، علي النحو التالي: إذا كنت تجد نفسك مرشحاً لملء فراغ موجود بالفعل، فإن ملء هذا الفراغ لن يكون شكلياً، وإنما سوف يكون اختباراً حقيقياً لك، وسوف يكون اختباراً أيضاً بمعني من معاني الامتحان، بما يعبر عن مصالح مجموعات المواطنين.. مجموعات العاطلين التي تتشوق إلي من يبدد بطالتها،

ويروي عطشها إلي وظيفة تحفظ كرامتها.. مجموعات رجال الأعمال والمستثمرين الصغار، قبل الكبار.. مجموعات المدرسين والمهندسين ورجال القضاء.. مجموعات المهمشين، واليائسين والمحبطين.. مجموعات الباحثين عن أمل.. مجموعات الأغلبية الحائرة التي تسعي إلي من يخاطبها، ويتفهم مطالبها، ويستوعبها، ثم يتبناها.. مجموعات أغلبية الـ٧٧% الذين لا يذهبون للانتخابات، والذين يجتذبهم الإخوان، وغير الإخوان، غضباً علي الحزب الوطني ويأساً منه، وسخطاً عليه.

هذه المجموعات تتطلع إلي أن تري جمال واقفاً وسط المظاهرات يطالب بالإصلاح، وتتطلع إلي أن تراه أكثر الناس تشدداً في المطالبة بتعديل المادة ٧٧، ليس بأن تكون مدة الرئيس في المنصب ١٢ عاماً، ولكن عشر أو ثماني سنوات.. هذه المجموعات تريد من جمال مبارك أن يقف في الصفوف الأولي من مظاهرات الإصلاح،

وليس من خلفية الصورة، خلف قوات الأمن التي تتصدي - بحكم وظيفتها - للمظاهرات.. وفي هذه الحالة، بدلاً من أن يكون متضامناً مع السلطة، وهذا هو الأسهل بالنسبة له، ولمن يتحلقون حوله، سوف يكون شريكاً في الكفاح، ليس ضد عدو معين، ولكن شريك في الكفاح لتحقيق أحلام كامنة في وعي كل مصري غيور.. جمال مبارك إما أن يكون واحداً من الناس فيدفعون به، ليترجم أحلامهم.. وإما أن يكون عبئاً عليهم، فيرفضونه ويتحفظون عليه..

جمال مبارك يجب أن يكون أول الرافضين لنسبة الـ٥٠% laquo;عمال وفلاحينraquo;، وأن يصيح بأعلي صوته، عند مجرد ذكر هذه النسبة، ويقول: كفانا هراء، وكفانا ضحكاً من العالم علينا.. جمال مبارك شاب في أول الأربعينيات، ويجب أن يتكلم بهذه الطريقة، وأن يفكر بهذه الطريقة، وأن يكون مختلفاً اختلافاً جذرياً عن المحيطين بالرئيس،

وأغلبهم في السبعين.. فكيف يقول ما يقولونه، ويردد ما يرددونه، مع أنه من المفترض أن يكون شيئاً، وأن يكونوا هم شيئاً آخر، علي طول الخط وعرضه.. جمال مبارك لابد أن يكون له رأي جديد وحاضر، في كل مشكلة من مشاكل البلد، بشرط ألا يكون رأياً تبريرياً أو دفاعياً.. هذا الشاب إذا كان فراقاً لما كان، فمن الممكن أن يكون لنا.. أما أن يكون امتداداً، فنحن آسفون، والنمرة غلط!.. إن الأب.. أي أب.. يريد ابنه ليكون أفضل منه، لا ليلقي نفس المصير.

جمال مبارك يجب أن ينزل من أحضان السلطة إلي الناس.. إن صورته التي تراكمت ملامحها علي مدي السنوات الخمس الماضية، قد تؤهله لأن يكون مرشحاً له مكان.. ولكنه في حاجة لتحويل المكان إلي مكانة.. فكيف يتوقع أن يتقبله الناس إذا صمم علي أن يكون امتداداً لما نعرفه، ونعانيه، ونرفضه؟!

نريد منه أن يفرق بين حسني مبارك الأب، وحسني مبارك الرئيس.. وأن يكون أكثر الناس طاعة للأول، وأكثرهم تمرداً واختلافاً مع الثاني.. إنني أحرّضه علي ميراث أبيه، الذي انتقل إليه من عبدالناصر والسادات.

هذا هو جزء من ميراث الثورة لمبارك، وهذا الميراث بالضبط هو ما نريد من جمال مبارك أن يثور عليه، وأن يرفضه معنا، وأن يسعي معنا أيضاً إلي تغييره، وإلي التخلص منه..

وبذلك يكون جمال مبارك هو أول الرافضين للتوريث، لأن التوريث، في حقيقة الأمر، هو مضمون قبل أن يكون أشخاصاً أو أفراداً.. نريد من جمال مبارك أن يخرج من العباءة الرئاسية التي يستقر في داخلها.. نريده أن يعبر عن جيله، وعن ثقافته، وعن نشأته، وليس عن ثقافة وأفكار الرئيس ورجاله.. فكل الذين خدموا مصر من قبل فعلوا ذلك بما استطاعوا أن يقدموه في حدود ثقافتهم، وتعليمهم، وظروف جيلهم.. ولكن جمال مبارك المفروض أنه مختلف، وينبغي أن يكون مختلفاً، وأن يتصرف في كل وقت بوصفه مصلحاً، وليس وريثاً.

عقلية المُصلح هي التي نريدها.. وليست عقلية الوريث!!

جمال مبارك يجب أن يتخلي عن الجمود الذهني، الذي يصيب النظام حالياً.. ويجب أن يتخلي عن الثوابت العبيطة التي آلت إلي النظام من ميراث الثورة.. ويجب، إجمالاً، أن يتبني مطالب المصريين، في التغيير، والخلاص!