68 قتيلاً وجريحاً احترقوا مع الكتب في شارع المتنبي


بغداد

أعاد انفجار سيارة مفخخة في شارع المتنبي العريق في قلب العاصمة العراقية، ذاكرة البغداديين الى غزو المغول قبل قرون، عندما حول حبر كتب عاصمة الرشيد لون مياه الفرات. إلا أن انفجار أمس خلط كتب شارع المتنبي، آخر معاقل مثقفي العاصمة، بدماء 68 قتيلاً وجريحاً وجثث بعضهم التي تفحمت الى درجة عجز أقارب أصحابها عن التعرف اليهم. أما باعة الكتب فتفرقوا أمس بين من يبحث عن جثة قريب أو صديق له، وبين من يتحسر على الماضي قبل أن يحل زمن laquo;هولاكوraquo; مجدداً، بحسب مسؤول مزاد الكتب في سوق الجمعة نعيم الشطري.

يقول الشطري إن laquo;هذا العمل جرى فقط في زمن هولاكو واليوم يحدث مجدداً من المجرمين القتلة الذين استرخصوا حياة الأبرياءraquo;. ويضيف هذا المثقف الستيني باكياً ان laquo;قتل الكتاب أخطر من قتل الانسان (...) لأن الإنسان له عمر، أما الكتاب فيبقى خالداً وقد أحرقوه. إنهم يحاولون قتل المعرفة في هذا البلد، وهم يقتلون الطلبة في الجامعات. واليوم يقتلون الكتاب في أعرق شوارع بغداد التاريخيةraquo;.

أما محمد سلمان، شقيق صاحب مكتبة عدنان الشهيرة، فبحث عن أخيه laquo;في ثلاثة مستشفيات بلا جدوىraquo;، إذ أن laquo;المشكلة الكبيرة هي أن كل الجثث عبارة عن قطع سوداء يصعب التعرف عليها بسبب الحروقraquo;.

واختلطت أوراق الكتب المتناثرة بالدماء والجثث المتفحمة على جانبي الشارع، فيما كانت النار تلتهم المكتبات التاريخية التي يشتهر بها، وهي أضرار بالغة ألحقها وقوع الانفجار قرب جامع الحيدرخانة، في وقت يشهد هذا الشارع ازدحاماً شديداً. ووقع الانفجار قرب التجمع الثقافي العراقي، وهو عبارة عن قاعة يتجمع فيها المثقفون والأدباء، أنشئ نهاية عام 2003 وأصبح ملتقى لهم.

ويشهد شارع المتنبي طوال الأسبوع، عدا الجمعة بسبب حظر التجول المفروض في هذا اليوم، حركة نشطة من رواده الصحافيين والمثقفين الذين يجدون ضالتهم في البحث عن الكتب والمصادر.

ويرى حجي علي، صاحب مقهى الشاهبندر، وهو ملتقى الشعراء والادباء والصحافيين، أن الانفجار كان laquo;كارثة انسانيةraquo;. ويضيف من أمام مقهاه الذي تحطم زجاجه بسبب قوة الانفجار أن laquo;هذا المكان معرفي بعيد عن العنف، وحولوه اليوم الى هشيم وحطامraquo;. فشارع المتنبي laquo;لطالما كان يقود حملة توعية ضد العنف (...) والمفروض أن يكون خارج دائرة الصراع (...) وكثير من العرب والاجانب من اصدقائنا لا يزالون يزوروننا هناraquo;.

ولم تقتصر الحسرة التي عمت باعة الشارع ورواده أمس، على فقدان الأحبة والأصدقاء، بل تجاوزتها لتشمل المحتويات النادرة لبعض المكتبات التي التهمتها النار. يشير صاحب احدى المكتبات التاريخية القديمة محمد حميد الى احتراق مكتبته laquo;التي تضم موسوعات وكتباً تاريخية نادرة ودينية مهمة جداً غير موجودة إلا في بغدادraquo;. ويؤكد أن laquo;هذه الكتب تعتبر مصادر بحث علمية وأدبية لكثير من طلبة الدراسات العلياraquo;، قبل أن يبدأ بالبكاء وهو يردد laquo;لا حول ولا قوة إلا باللهraquo;.

وكان هذا الشارع الذي يعود الى أواخر العصر العباسي، يعرف أولاً باسم laquo;درب زاخاraquo;، واشتهر منذ ذلك الحين بازدهار مكتباته واحتضانه أعرق المؤسسات الثقافية وبينها مدرسة laquo;الامير سعادة الرسائليraquo; و laquo;رباط ارجوانraquo;. وأُطلق عليه اسم المتنبي عام 1932 في عهد الملك فيصل الاول، تيمناً بشاعر الحكمة والشجاعة أبي الطيب المتنبي. كما عُرف ايضاً باسم laquo;شارع الاكمك خانةraquo;، أي المخبز العسكري.

وكان من أشهر رواد هذا الشارع الشعراء محمد مهدي الجواهري (1899-1997) وبدر شاكر السياب (1926-1964) وعبدالوهاب البياتي (1926-1999)، والمستشرقان الفرنسيان لوي ماسينيون (1883-1962) وجاك بيرك (1910-1995) والاديب المصري زكي مبارك (1891-1952) والشاعر السوداني محمد الفيتوري.

وقبل 15 عاماً، وفي ظل الحظر الدولي الذي فرض على العراق وأفقر أهله، تحول هذا الشارع الى laquo;بورصة ثقافيةraquo; تنظم كل جمعة، وتعرض خلالها أشهر الكتب والمصادر وتنتعش فيه مكتبات الرصيف الذي يفترش اصحابها جانبي الشارع طوال ساعات النهار.