دانييل فينكلشتاين - التايمز

في ظاهره، بدا الأمر غريباً نوع ما. ففي عام 1994، كان مستطلعو آراء الجمهور لصالح نيوت غنيغريتش يدرسون العقد الذي كان مقترحاً أن يبرمه مع اميركا عندما اصطدموا بتغير محير في المواقف. فعندما سئل المستطلعة آراوهم عما اذا كانوا يعتقدون بأن المزايا لا ينبغي أن تمنح للآباء الوحيدين الذين يرفضون العمل، وافقوا على ذلك بقوة. لكنهم عندما سئلوا عما اذا كان أولئك الآباء ينبغي أن يحرموا من المزايا، فقد أيدوا ذلك بشكل أقل بكثير. ومع أن تلك السياسة بدت على أنها هي نفسها، إلا أن تأييدها كان مختلفا جدا.

ان ما شهده المستطلعون كان شيئا عاديا تماما من الناحية الفعلية. اذ طرحت الاستنتاجات مثالا لما يصفه الاكاديميون quot;الانحياز للوضع القائمquot;. وقد زودت الطريقة التي تم فيها عرض السؤال على المقترعين وجهتي نظر مختلفتين للوضع الراهن: فاذا كان الوضع الراهن مع منح المزايا للناس، فان المقترعين لم يريدوا انكاره عليهم. اما اذا كان ذلك الوضع مع عدم منح المزايا للناس، فانهم لم يريدوا منحها لهم.

تجري الاستعانة بفكرة quot;الانحياز للوضع الراهنquot; المرة تلو المرة في السياسة. فعندما عرضت على المقترعين في نيوجيرزي وبنسلفانيا خيارات متشابهة خلال تصويت على قانون لتأمين السيارات، صوت كلا الجمهورين بقوة لصالح سياسات متناقضة. حيث تمسك كل طرف بالوضع الراهن في ولايته.

وراء فكرة الانحياز للوضع الراهن، يكمن ما يلي: إن الناس ينزعون الى اعتبار القيام بتنفيذ أعمال ضارة كما لو أنه أسوأ من عدم تنفيذ الأعمال. وهم يبالغون في تقدير مخاطر التصرف ويحطون من قدر اولئك الذين يفشلون في العمل. فعلى سبيل المثال، يفشل بعض الآباء في تطعيم ابنائهم لانهم يفضلون تركهم عرضة لخطر كبير معقول للاصابة بالمرض بدلا من المخاطر الصغيرة التي يتسبب بها تطعيم كانوا قد جهدوا في التوصل إليه.

ثمة مثال آخر، وهو سياستنا تجاه ايران. فبالكاد يمر يوم دون عرض خطط اميركية لتوجيه ضربة عسكرية لايران. ويتم التشديد على الطبيعة الخطيرة التي ينطوي عليها مثل هذا العمل. ويحظى الخطر الكامن وراء الفشل في مثل هذا السلوك بانتباه أقل بكثير مما ينبغي. إننا نعتقد بأن ايران، وهي دولة متشددة لها تاريخ في رعاية الارهاب، على بعد ستة أشهر من امتلاك القدرة على تخصيب اليورانيوم على مستوى صناعي. ونعتقد أيضا بأنها مصممة على حيازة اسلحة نووية وانها ستحقق رغبتها في غضون بضع سنوات. ومع ذلك، فإننا نبدي تخوفاً من الاقدام على عمل ما اكثر مما نبديه حيال عدم الاقدام على القيام بعمل أصلاً.

ربما يمكن تسمية السبب الأول وراء خيارنا quot;مخاتلة الملف المراوغةquot;. فلأن تقارير الاستخبارات اشارت الى انه كان لدى العراق اسلحة دمار شامل ولم نستطع العثور على اي منها، فان فكرة الاقدام على عمل ما ضد ايران تبدو قذرة. ماذا اذا كان الايرانيون يقولون الحقيقة لدى القول ان برنامجهم النووي ليس عسكريا؟

إن هذا سؤال معقول. اذ من الصعب معرفة اي شيء عن اسلحة الدمار الشامل. فقد غضضنا لسنوات من شأن برنامج صدام النووي بالإجمال قبل ان تكشف أجهزة استخباراتنا عن الحقيقة. ولكن، لماذا ينبغي أن نفضل وجهة النظر المتفائلة إزاء النوايا الايرانية عندما تكون عواقب تقديراتنا كبيرة جداً في حال كانت خاطئة؟

لعل احد الاسباب هو quot;حجة التكافؤquot;. وأنت تسمعها طول الوقت تتردد في الخطاب الايراني. فكيف لنا أن نحاضر في الايرانيين في الوقت الذي ننكب فيه على تحديث نظام اسلحتنا؟ ولماذا لا ينبغي لهم حيازة اسلحة نووية بينما نملكها نحن؟ وقد أشار مدير عام وكالة الطاقة النووية الدولية محمد البرادعي مؤخرا الى هذه النقطة، وان لها قوتها؛ إذا كنت لا تستطيع رؤية اي فرق بين حكومة ايران وبين تلك التي تحكم في بريطانيا والولايات المتحدة. لكنني لا اعتبر أمر مثل ذلك التمييز والعثور على الفارق شيئاً صعباً.

إن إيران إذا ما نجحت في الحصول على اسلحة نووية، فإن ذلك سيمنحها الجرأة لانتهاج سياسة خارجية عدائية تدعم نشاطات ارهابية وقوى معادية للديمقراطية حول المعمورة. انها اكثر خطورة على السلام والديمقراطية، وبشكل لا يقبل المقارنة، من تحديث الغواصة النووية quot;تريدنتquot;.

ثمة سبب أكثر قابلية لفهم انحياز الوضع الراهن ضد إيران، وهو ما يمكن ان يوصف بانه quot;وهم ساعة التوقيتquot;. ففي كتابه الرائع quot;الأحجية الفارسيةquot;، يتحدث كينيث بولاك مستشار كلينتون السابق عن ان سياسة ايران تشتمل على ساعتين -ساعة تغيير النظام والساعة النووية. ويقول البعض ان هدف السياسة يجب ان يكون الاسراع في تسريع عقارب ساعة النظام وقلب الملالي، أكثر من العمل على إبطاء سرعة الساعة النووية.

لكن، وكما يشير بولاك، فإن هذا الأمر بالكاد يبدو واقعيا، ذلك أن تغيير النظام في ايران، رغم كونه أمراً غير قابل للتكهن، يبدو أبعد احتمالاً بكثير من حيازة الأسلحة. وفي جميع الاحوال، فان تاريخ محاولات تغيير النظام في ايران من الخارج لم تكن مشجعة تحديدا. وهو ما يترك آخر الاسباب -والذي لا يزال اكثرها قوة- للانحياز للوضع الإيراني الراهن. وثمة اعتقاد عالمي تقريبا باستحالة فعل اي شيء. ولا أعتقد ان هذا صحيح.

غالباً ما يُحاجج بأن الحرب في العراق قد جعلت من امر الاقدام على عمل ما في ايران مستحيلا. لكن الحقيقة مختلفة - ذلك ان الحقيقة تقول ان غزو ايران سيكون دائما فكرة حمقاء، إذ تبلغ إيران أربعة اضعاف العراق من حيث المساحة، كما ان عدد سكانها هو ثلاثة اضعاف سكان العراق. وتساعد سلسلة جبالها نشاط المتمردين، ناهيك عن ان تاريخ ايران يشير الى ان الايرانيين معروفون بانهم مقاومون اشداء للتدخل الاجنبي.

على أن هناك قضية أقوى بكثير لصالح توجيه ضربات عسكرية للمنشآت النووية. ومن الطبيعي ان يستشيط الايرانيون غضبا وان تكون هناك ادانة دولية عارمة. لكن الحد الأعلى سيكون ان الساعة النووية الايرانية يمكن ان تبطَّأ او حتى توقف. والحجة الوحيدة الجيدة والحقيقية ضد توجيه ضربات عسكرية هي اننا لا نستطيع التأكد اين تكمن مرافق ايران النووية. وقد اثبت الايرانيون انهم ماهرون في اخفاء هذه الاشياء.

لكن، وبسبب حالة عدم اليقين هذه، ونظرا لانه يجب تجنب الاقدام على اجراء عدائي اذا امكن، فإن مثل هذه الضربات تعتبر ملاذا اخيرا. لكنني لا استطيع فهم اولئك الذين يصرون، مثل صحيفة النيويورك تايمز، على وجود إيضاحات بخصوص نوايانا، او اولئك الذين مثل جاك سترو الذي قال مرارا عندما كان وزيرا للخارجية ان الاقدام على عمل عسكري ضد ايران هو امر غير قابل للاخفاء. لماذا نريد ان يعرف الايرانيون ذلك؟ ولماذا لا نريد ان نجعلهم يخافون من ان توجيه ضربات لهم قد يكون بسبب سياستهم؟ أوَلا تشكل حالة عدم التأكد وغياب الوضوح سلاحاً فعالاً؟

إن التاريخ يقول ذلك. فقد تراجعت إيران منذ ثورة عام 1979 وفي عدد من المناسبات عن انتهاج سياسة عدائية لانها كانت تخشى اما من رد عسكري او عقوبات صارمة. ومع ذلك، فإننا نخشى الآن تهديدها بأي منهما.

كانت روسيا قد قالت الشهر الماضي إن تشغيل المفاعل النووي الايراني في بوشهر قد يتأجل لان ايران اخفقت في تسديد دفعات انشائه. ولعل العقوبات المالية الاميركية تؤتي أكلها. ومع ذلك، فان الدول الاوروبية لا تزال ترفض الانضمام إلى هذه العقوبات. فيا الهي! ماذا ننتظر؟