خيري منصور
ترد عبارة المصالح الوطنية العليا في سياقات عدة ذات منحى خطابي في أيامنا، وغالباً ما يكون المقصود بها الدفاع عن موقف سياسي ما، باعتباره غير قابل للمناقشة لتعلقه بالمصلحة العليا.
أليس من حق الناس أن يتساءلوا ما هي المصالح الوطنية الدنيا كمقابل لهذه المصالح العليا؟ أم أن الأمر يشبه الحديث المتكرر عن البنية التحتية بمعزل عن البنية الفوقية والوسطى؟
إن اللغة تقتادنا أحياناً من ألسنتنا لنقول ما لا نعني، وكأن هناك عادات كلامية يسبق فيها اللسان العقل، وتستمد شرعية استمرارها من التكرار.. لا أكثر ولا أقل.
إن مصالح الأوطان هي دائماً الأعلى، وما من مبرر لهذا التصنيف الذي يترك احتمالاً لوجود مصالح أدنى يمكن تجاوزها أو النّيْل منها، ويبدو أن بلاغة لغتنا العربية وسعتها ووفرة مترادفاتها أتاحت للمشتغلين في السياسة أن يلعبوا بالكلمات المتقاطعة وغير المتقاطعة علناً، ومن وراء مكبرات الصوت والشاشات الأرضية والفضائيات.
ولا أظن أن هناك لغة غير لغتنا تجرأ أصحابها والناطقون بها على تسمية الثورة بأنها تقدمية، وكأن هناك ثورة رجعية، وإذا كان المقصود بهذا المعنى هو الثورة المضادة، فإن لكل مقام مقالاً.
وقد يكون الإفراط في استخدام الصفات وأفعال التفضيل، هو السبب في هذا الترهل الذي أصاب النثر السياسي العربي، فالأسماء المجردة من النعوت لا تكفي، وأحياناً تضاف صفات لأقطار وعواصم بهدف استرضاء أولي الأمر فيها، حتى الأدب والثقافة لم يسلما من هذا الإفراط في إغداق الصفات، فالشعراء كلهم كبار وكذلك النقاد والصحافيون والروائيون، ويفوت من يغدقون الألقاب والصفات بالمجان أن ما يفعلونه يسيء الى لغتهم وإلى كثير من المفاهيم، فالقول إن فلاناً كبير، سواء كان شاعراً أو سياسياً أو رجل اقتصاد يعني بالضرورة أن هناك صغاراً، ولا ندري بأية معايير يقاس منسوب الكبر والصغر خصوصاً عندما تتعلق المسألة والمقايسة بالثقافة والأفكار.
إن هذا الخلل الذي لا يقتصر على الأداء اللغوي بل يتخطاه الى المفاهيم، هو المسؤول عن تصنيف المصالح الوطنية الى عليا ودنيا، ومناطق محظور الاقتراب منها ومن خطوطها الحمر، ومناطق أخرى أشبه بالحدائق العامة، أو رصيف الشارع.
وإننا نطالب من يكررون عبارة المصالح العليا بأن يقدموا لنا مثالاً واحداً عن مصلحة وطنية دنيا أو من درجة أقل، فإذا كان المقصود بالعليا السيادة، أو الأمن القومي، فإن الزراعة والتعليم والبيئة، وأنماط السلوك البشري ليست أقل من هذا، ولا يمكن وصفها بالدّنيا. لكن النفوذ المستمر لمفاهيم بادت وفقدت صلاحيتها لا يزال ذا تأثير بالغ على الوعي وأحياناً على اللاوعي، وقد ندركه أو لا ندركه، والتعالي التقليدي عن مهن معينة وعن أنشطة إنسانية غير مدرجة في قوائم الساسة والجنرالات قد يصبح البعوضة التي تدمي مقلة الأسد، أو عود الثقاب الذي يشعل غابة.
والعسكري الذي يتعهد حراسة وطنه كان ذات يوم تلميذاً في مدرسة، وتلعب المناهج التي تلقاها وأساليب تعامل المدرسة والبيت معه دوراً في صياغة وعيه، وتحصين ضميره.
وحين غيرت سلطات الاحتلال الصهيونية بعض المناهج التعليمية في الضفة الغربية وغزة بعد يونيو/ حزيران 1967 لم تقترب من العناوين الكبرى، أو ما نصنفه مصالح عليا.. واكتفت بأن غيرت في كتاب القواعد لأحد الصفوف الابتدائية كلمة واحدة.
فقد كانت الجملة قبل التغيير، ldquo;عاد العربي منتصراًrdquo;، فأصبحت ldquo;عاد العربي زائراًrdquo;، ولم يمض على ذلك التغيير سوى عشرة أعوام حتى عاد زعيم عربي لدولة كبرى زائراً ووقع الإعلام العربي في الفخ وسمّى هبوط السادات في مطار بن غوريون (زيارة)!
إن المصالح الوطنية كلها عليا.. وما يتدنى منها يصبح في مهب الاستباحة والانتهاك.
التعليقات