إياد أبو شقرا

آتى التحرك السعودي الإيراني أكله الأولى في لبنان بفتح باب اللقاءات المعطلة بين بعض قيادات تكتلي laquo;14 آذارraquo; وlaquo;8 آذارraquo;.

هذا تطور إيجابي، طبعاً، لكنه لا يشكل بمفرده نقلة حاسمة باتجاه الحلول. وحقاً جاءت ردات الفعل الأولى ـ المتحفظة والمتناقضة ـ تماماً كما كان متوقعاً في ساحة تحفل بكل أنواع الاضطراب والشك والهواجس كالساحة اللبنانية.

حالة الشلل الكامل في كل مناحي الحياة، المتفاقمة نتيجة انقطاع الحوار وانهيار الثقة بين مكونات الشعب والنخب السياسية على السواء، كانت بحاجة إلى هبوب رياح خارجية تحرك المستنقع الراكد وتخرج البلد من الزاوية الحادة التي سار نحوها بخطى عنيدة قبل أكثر من عام.

مع هذا من المفيد ألا يخدع المرء نفسه.

فعوامل النزاع بين اللبنانيين لم تكن في يوم من الأيام بالبشاعة والحدة التي هي عليهما اليوم. وسموم الفتنة الإقليمية الخطيرة تغلغلت في التركيبة الداخلية اللبنانية وقطّعت الكثير من أنسجتها وأربطتها. ومناخ المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران، المطبق على منطقة الشرق الأوسط برمتها، زاد الطين بلة، ولا سيما بعد حرب الصيف الماضي التي دفع فيها لبنان ثمناً باهظاً لم يغطِّ إلا جزءاً بسيطاً من laquo;فاتورةraquo; هذا المناخ.

معلوم أن أمام الدول العربية الشقيقة التي تتهيأ للاجتماع على مستوى القمة في الرياض تحديات بالجملة. وأن بين هذه التحديات الحاجة إلى لجم الفتنة الإسلامية ـ الإسلامية التي انطلقت شرارتها من العراق، وامتدت اليوم لتهدد لبنان من دون توفر آليات كفيلة باحتوائها. وإذا أضفنا إلى الشق اللبناني من هذه الفتنة الدور الإسرائيلي، والارتباك الأميركي، والمغامرة التي يتصور الحكم في دمشق أنها ستعزز مواقعه في الترتيب الإقليمي المستقبلي الذي يحلم به أصحاب المشاريع الكبرى للمنطقة، نجد أن من حق الدول العربية الشقيقة محاولة إخماد ألسنة اللهب اللبنانية والعراقية كي لا تمتد إلى ما هو أبعد.

من ناحية أخرى، يستحيل توهم أن إيران في ظل نظامها الحالي يمكن أن تتخلى عن استراتيجية دخول laquo;نادي الأقوياءraquo; الكبار. فالمنظور الديني ـ السياسي للسلطة في طهران يقوم على مسلّمات وواجبات تكليفية لا تقبل الجدل. وتجارب حكام إيران مع laquo;أعداء الخارجraquo; عبر القرنين الأخيرين مريرة إلى درجة لا تتيح لهم الوثوق بأحد. ثم أن إيران الـ 70 مليون نسمة تطلّ على ثلاث من أغنى مناطق النفط في العالم هي الخليج وبحر قزوين ووسط آسيا التي يهم الولايات المتحدة ومن خلفها الغرب كله ألا تخسر ثقلها فيها. وهكذا، يصبح امتلاك إيران القدرة النووية أكثر من ضرورة ماسة لإنقاذ النظام، والاقتصاد، والوحدة الجغرافية للبلاد، والامتدادات المذهبية الإقليمية التي ترفد المركز (الذي هو إيران) بقدر ما تستقوي به. ولكن بما أن العقل الإيراني المنظم يجيد لعبة الوقت ويفاوض ببراعة لكسبه، يهمه كثيراً ألا يضطر إلى التفريط بأوراق ضغط قوية في تحرك خاطئ وخطوات مبتسرة.

هذه العوامل مجتمعة دفعت الرياض وطهران إلى العمل على وقف الانزلاق السريع نحو الهاوية. وكان في طليعة الأهداف محاولة تنفيس الاحتقان في لبنان.

لماذا لبنان؟

أولاً، لأنه laquo;فسيفساءraquo; طوائف وولاءات ومخاوف ... مرشحة عند كل منعطف لأن تصل إلى حافة الحرب الأهلية.

وثانياً، لأن laquo;ثقافاتهraquo; السياسية الفئوية برغم تعددها ما زالت نشطة وديناميكية، كون البلد لم يستسلم لحكم ديكتاتوري متطاول أذلّ مواطنيه وlaquo;دجّنهمraquo; وقتل فيهم الشجاعة على الانتقاد والاعتراض والتفكير الحر.

وثالثاً، لبنان المتاخم لسورية وإسرائيل يشكل ساحة تماس ومواجهة مباشرة بين laquo;المشروعينraquo; الغربي والإيراني في منطقة الشرق الأوسط.

ورابعاً، لأن شرارات أي تفجّر لبناني داخلي لن توفّر الدول العربية المجاورة. وما هو حاصل اليوم أن تشتت المسيحيين اللبنانيين وتفرقهم (متعمداً كان أم غير متعمد) ... يمنعهم من لعب دور صمام الأمان الذي يحول دون فتنة سنية ـ شيعية.

لذا أعتقد أن على اللبنانيين أن يحاولوا التعاطي مع خطورة الوضع الذي يسكنهم بشيء من الواقعية العاقلة بعيداً عن laquo;الشطارةraquo; التكاذبية التي أتقنوها أكثر مما ينبغي على امتداد عقود عديدة. فمنطق الأشياء يقول بأن لا حلول جدية في البلد لأي قضية خلافية طالما استمر التخندق الآيديولوجي والكيدي الراهن، ولا إمكانية للسير قدماً نحو بناء laquo;الدولةraquo; إذا ما أصرّ فريق من الأفرقاء على مواصلة سيره في مشروع الهيمنة مستقوياً بقوى خارج الحدود.

ومعظم اللبنانيين يشعرون اليوم أن أقدر القادة الفاعلين على الساحة لن يتمكنوا من وقف الاندفاع نحو حروب إلغاء ـ حتى لو حاولوا ذلك ـ إذا كانت ثمة قوى خارجية مأزومة ترى أن مثل هذه الحروب تقوّي مواقعها وتسهل لها تحقيق مصالحها. والواضح الآن أن قرار الحرب والسلم لم يعد في ايدي اللبنانيين، وهذا ما أكده الإخفاق الفظيع للقاءات الحوار والتشاور قبل حرب الصيف.

الواقعية العاقلة، إذاً، تقضي بإعطاء المساعي الحميدة فرصة لفتح ثغرة في الحائط المسدود، ومن ثم التوصل إلى آلية مقبولة لتنظيم الخلاف ـ نعم ... تنظيمه ـ ولملمة تداعياته بانتظار نضوج فرص حقيقية للتغيير.

أما أصحاب المساعي فحسبهم أنهم يفعلون ما عليهم فعله كي لا تنفلت الأمور من laquo;الخاصرة الضعيفةraquo; للمنطقة ... فتعم الفتنة ويستعصي ضبطها، وصدق من قال:

على المرء أن يسعى إلى الخير جهده
وليس عليه أن تتم المقاصدُ