خالد الغنـّامي
وانتهى الكرنفال السعودي الكبير الموسوم بمعرض الكتاب الدولي وتنفس كثير من الإخوة الصعداء بعد أن زالت الغمة وسافرت الكتب. لا أدري لماذا كل هذا الخوف من الكتاب وكأنه وحش كاسر بأنياب ومخالب يريد أن يمزق جسد طفل رقيق؟.
مشاهد كثيرة استوقفتني هناك، مشاهد تتكرر كل يوم طوال رحلة العشرة أيام الماضية، بعض الإخوة يتصفح كتابا من الواضح أنه لا يحبه، البعض الآخر يفتش حتى في الأكياس الموضوعة تحت قدمي البائع، يحدث أحيانا أن يجتمع واحد، اثنان، ثلاثة، عشرة، ثم يتوجهون للمسؤولين عن تنظيم المعرض ويبدأ هناك حوار ساخن، وصل في مرات متعددة أمامي إلى شدّ ذراع المسؤول ومحاولة سحبه للدار الفلانية ليشاهد بأم عينه مقاطع سيئة من ذلك الكتاب المحرم أو ذلك الديوان الماجن، غير أن المسؤولين عن تنظيم المعرض طالبوا باتباع الطريقة الحضارية القائمة على تعبئة الاحتجاج على ورقة رسمية وتسليمها لهم ليتم النظر فيها فيما بعد، لم تكن هذه حيلة من إدارة المعرض فقد تم بالفعل منع عدد من العناوين بهذه الطريقة. السؤال هو لماذا نخاف ؟ أعتقد أن الذي يخاف من الكتاب، أي كتاب، هو أحد اثنين، إما شاك في عقله، أو شاك في إيمانه، يجمعهما الضعف الشديد الذي هو أساس تخلف الأمم وانهيار الحضارات.
لو قلت لكم ما رأيكم في كتاب ينقل عن رجل أنه كان يقول (أنا ربكم الأعلى) وينقل لنا كلام الشياطين والمردة والطواغيت وينقل لنا شتم الأنبياء والسخرية بهم مثل (ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) يقصد اللثعة التي كانت في لسان موسى عليه السلام. هذا الكلام كفر صراح بواح، ومع هذا هو موجود في كتابنا الأول القرآن الكريم ولم يقل رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم احذفوها أو اكشطوها لئلا تزيغ قلوب الناس لسماع الكفر أو قراءته.
لأن القرآن لا يخاف من النقد، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يجادل مخالفيه ويناظرهم ولم يكن يهرب من حوار بل خصومه هم الذين كانوا يفعلون هذا، وفي عصور نهضة المسلمين كان هناك حوارات يسمونها (الردود) بين الأشاعرة والمعتزلة وبين السنة والشيعة وبين المسلمين والنصارى، لم يكن الكتاب يحارب بهذه الصورة المنظمة، فما الذي تغير الآن ؟
القرآن علم المسلمين الشجاعة فمن أين جاء هذا الخور والخوف ؟
القرآن كتاب جدل،علم أهله الجدل والحوار العقلي، وآيات المحاجة بين أهل الحق وأهل الباطل أكثر من أن تحصى، فما بال أهله اليوم لا يردون على المخالف إلا بالمنع والإقصاء والتكفير والعصا والرشّاش؟ هل نحن ضعاف الحجة لهذا الحد ؟
إنني أدعو كل من فرح بقتل المرحوم فرج فودة في عام 1988 أن يعود فيقرأ كتبه، خصوصاً (الحقيقة الغائبة) الذي غضب بسببه كثيرون، أنا متأكد أن الوعي العام قد ارتفع الآن عما كان عليه في تلك الحقبة، وأنه لن يرى هؤلاء الإخوة في كتاب (الحقيقة الغائبة) أي مبرر لتكفيره ولا لقتله. في عام 1925 ألف الشيخ علي عبد الرازق كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي فسر على أنه دعوة للعلمانية تبعت سقوط الخلافة العثمانية بسنة حيث سقطت تلك في 1924 وذكرت المصادر أن الشيخ علي عبد الرازق كان يحضر للمحاكمة التي عقدت له فيلقي السلام على القضاة فلا يرد عليه أحد في كل مرة، غير أن هذا لم يمنعه أن يظل مقتنعاً معتزاً بفكره الحر الذي يرى أصلاً أنه لم يخالف إيمانه وهذا هو موقف المثقف الحر المعتز بكرامته وإنسانيته مهما كثر حوله الضجيج وارتفعت الأصوات.
كل الذي فعله الكتاب أنه في بعض الأحيان يفضح الأفكار الهشة التي لا تملك الحجة والبرهان ولا تستحق فضيلة البقاء ولعل هذا أحد أهم الأسباب التي جعلت البعض يحاربونه بهذا الشكل. نعم، يحدث أن يشط المؤلف وربما يخرّف، وقد يكون مجنوناً بالأصل، وقد يكون ممن يكتب كنوع من ردة الفعل المتشنجة التي أرهقها القمع والكبت، كل هذا وارد ولن أجادل فيه، لكنه لا يمنع أن نأخذ ما ينفعنا ونترك ما ليس كذلك دون حجر على العقول ولا تكميم للأفواه ولا يجوز أن يكون موقفنا غير موقف المستوعب لكل من يكتب في سمائنا الثقافية.
- آخر تحديث :
التعليقات