د. رضوان السيد


ما انتظر أحدٌ منا أن يأتي التقرير السابع للجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري بهذا الوضوح، وبهذا الأُسلوب. فقد عوَّدنا المحقّق براميرتس على الغوص في التفاصيل الفنية، وعلى القول بعد كل جملتين إنّ هذا الأمر أو ذاك يحتاج إلى المزيد من البحث، والمزيد من المقارنة، والمزيد من استنطاق الشهود. ثم إنه زاد من تزهيدنا هذه المرة بالذات، بالطلب قبل أسبوعين تمديد عمل لجنة التحقيق لما بعد شهر يونيو المقبل؛ ولذلك فقدر رأى الجميع تقريباً أنّ التقرير سيقع في بضع صفحاتٍ لا تقولُ شيئاً لغير المختصين، وتؤكّد ما سبق للمحقّق أن قاله لمجلس الأمن من أنه لن يقولَ كلَّ ما عنده إلاّ بعد تشكيل المحكمة، لغرض حماية الشهود، ومن أجل سلامة التحقيق!

في ضوء التوقعات، جاء التقرير السابع الصادر يوم الخميس في 15/3 مفاجئاً من عدة نواح. إذ إنه يمضي بعد صفحاتٍ في تفاصيل فنية (كلُّها مثيرةٌ للاهتمام هذه المرة) إلى إيراد رؤية مرجَّحة عن دوافع الجريمة، وعن كيفية حصولها، وعن الدوائر القريبة والبعيدة المحيطة بها. قسم المحقّق تقريره (الواقع في 20 صفحة) إلى خمسة أقسام: في التمهيد، وفي تقدم التحقيقات في الجرائم، وفي التعاون مع لجنة التحقيق، وفي التنظيم، وفي النتائج والاستخلاصات. وسأبدأُ بالفقرة رقم(3) من القسم الثاني من التقرير، وهي المتعلقة بدوافع اغتيال الرئيس الحريري، وطرائق تنفيذ الجريمة لأهميتها الفائقة، ثم أعود للأقسام الأخرى فأتناولُ ما أراه مهماً فيها. يذكر التقرير بوضوحٍ وصراحة أنّ الدافع الأساسيَّ لاغتيال الحريري يتمثَّلُ في عمله السياسي وحركيته السياسية.

ومع أنّ التقرير يذكر أنّ اللجنة درست وتدرس حركة الحريري خلال الخمسة عشر شهراً الأخيرة من حياته، وأنّ الأمر يحتاج إلى المزيد من الوقت لضخامة المهمة؛ فإنّ الدوافع المباشرة لعملية الاغتيال هي أنّ الحريري كان مُقْبلاً على تحالفات سياسية من أجل الانتخابات النيابية في شهر مايو، وكان مرجَّحاً أن يفوزَ هو وحلفاؤه فيها. ويدخل التقرير في التفاصيل فيذكر التمديد للرئيس لحود الذي ما كان الحريري يريده لكنه وافق عليه مُرغَماً في النهاية، وصدور القرار الدولي رقم 1559 والذي أحرج سوريا وأحرج لحوداً وأطرافاً أُخرى في لبنان وسوريا (وما قيل من أنّ الرئيس الحريري كان وراء صدوره بحسب الشائعات التي أطلقها السوريون يومَها)، وتردِّي العلاقات بين الحريري وجهات سياسية سورية ولبنانية بعد التمديد للحود وبعد القرار 1559 وبعد خروج الحريري من الحكومة، والبدء بالإعداد للانتخابات النيابية. هذا التردّي في العلاقات، وتلبُّد الأجواء من حول الحريري، دفع في أوائل شهر يناير لاتخاذ قرارٍ بقتله. وتلت ذلك عدةُ أمور: تكثُّف الوساطات بين الحريري وسوريا، لكي تعود العلاقات إلى مجاريها، كما تكثّفت التطميناتُ الدوليةُ وغير الدولية للحريري أنه لا خَطَرَ على حياته. لكنْ هنا بالذات يؤكّد التقرير أنه كان هناك خطّان لا علاقة لأحدهما بالآخر: خطّ القتل، وخطّ الاتصالات، والأخبار المطمئنة. ويتّسم التقرير في هذه الحيثية بالغموض بعض الشيء: فهل المقصودُ أنّ الاستجابة للاتصالات كانت استدراجاً من جانب تلك الجهات للحريري لكي يطمئن ويأمن فلا يُغادر الأراضي اللبنانية لكي تتمكَّنَ منه؟! أم أنّ المقصود أنّ الجهة التي كانت مُصرَّةً على القتل، خشيت من التراجع عن القرار نتيجة إمكان تحسُّن العلائق لتكاثُف الاتصالات، فسارعت إلى الاغتيال؟ تقريرُ اللجنة يقولُ في هذا السياق إنّ عملية الاغتيال ما كان محتَّماً أن تتمَّ يوم 14 فبراير، بل كان الوقتُ يحتمل أياماً أو أسابيع من التقديم أو التأخير بعد مطلع يناير؛ بل إنّ التقرير يلمّح إلى أنه كانت هناك محاولاتٌ أُخرى لاغتيال الرئيس قبل 14 فبراير.

ولا يذكر التقرير تفاصيل طبعاً لهذا التقدير أو ذاك. إذ إنه يوردُ هذه الاستنتاجات في مجال إثبات التقدم في التحقيق. وهو يقدّر أنه كانت هناك دائرة واسعة أُمرت بتنفيذ الاغتيال، فانقسمت إلى عدة مجموعات. مجموعة لمراقبة الحريري على مدار الساعة. ومجموعة لإعداد مسرح الجريمة، ومجموعة لإعداد أعمال التغطية والتضليل مثل التسجيل الذي ظهر فيه quot;أبو عدسquot;، ومثل نقل سيارات الموكب من مسرح الجريمة. ويُعطي التقرير أهميةً بارزةً لمسألتين: مسالة التلفونات الستة، التي استُخدمت قبل الجريمة بساعة، وأُخمدتْ بعدها بـ45 دقيقة. ويخمّن التقرير أنّ الاستعمال الأخير لأحد التلفونات إنما كان للقول إنّ الرجل مات، لتنطلقَ بعد ذلك المسألة الثانية وهي عملية quot;أبو عدسquot;، الذي أعلن عبر تسجيلٍ سُلِّم لمحطة quot;الجزيرةquot; أنّ تنظيماً إسلامياً نفّذ عملية الاغتيال. ولا يحسمُ التقرير في وظيفة quot;أبو عدسquot;، وهل هو فعلاً الرجل الفلسطيني نفسه الذي اختفى من منزل والديه قبل الاغتيال بشهر، ثم لماذا اختير لهذا العمل؟ وهل شارك تنظيمٌ إسلاميٌّ في الاغتيال بالفعل؟

على أنّ التقرير لا يكتفي بالدائرة الواسعة المنقسمة إلى مجموعات أو فِرَق؛ بل يضيفُ لذلك تقديراً يستند ولاشكّ إلى شهاداتٍ وقرائن. يقول التقرير إنه كانت هناك ثلاث مجموعات على الساحة اللبنانية تعرفُ عن الموضوع: مجموعة تعرفُ أنّ حدثاً كبيراً سيحصل، وأخرى تعرفُ أنّ الحريري سيُغتال، لكنْ لا تعرفُ التوقيت، وثالثة تعرف عن الجريمة والتوقيت، للحاجة إليها بعد الجريمة (وربما المقصودُ بذلك الحاجةُ إليها في أعمال التغطية من أي نوع).

وحسمت اللجنة في بعض الأمور مثل أنّ التفجير كان فوق الأرض بعد شكوكٍ متواصلة عبر عدة تقارير سابقة حول الموضوع. كما حسمت في مسألة سيارة الميتسوبيشي وأنها استُوردت من اليابان، وأنها جُهّزت وأتت برّاً إلى لبنان. وقالت إنها استمعت للمزيد من الشهود، وزارت دولاً عدة، وهي راضية عن التعاون السوري في التحقيق، وراضية عن تعاوُن الدول العشر التي كان رئيس اللجنة قد لامها في تقريره السابق دون أن يذكرها بالتحديد. وقالت اللجنة إنها تابعت التحقيقات في سائر الجرائم الأُخرى حتى جريمة عين علق قبل أسبوعين. لكنها في تلك الجرائم اكتفت بالوصف، وما أوردت نتائج واضحة. وقالت إنها حدَّدت 250 شخصاً إضافياً للاستماع إليهم منهم خمسون خلال الأشهر الثلاثة القادمة. وطلبت لذلك، وللمزيد من البحث في سائر المسائل، التمديد لها بعد أن تنتهي مدتُها في شهر يونيو المقبل.

ماذا يعني هذا كلُّه، وكيف تكونُ ردةُ الفعل السورية على التقرير؟ كانت سوريا قد أعلنت قبل شهرين أنها ليست معنيةً بالتحقيق، وأنه إذا ظهر متهمون سوريون نتيجة عمل اللجنة، فلن يُحاكموا إلاّ في سوريا وفي ظل القوانين السورية. لكنْ عندما بدأت الحواراتُ بين سعد الحريري ونبيه بري قبل أسبوعين سراً ثم علناً، أظهر السوريون وحلفاؤهم في لبنان توتراً شديداً. وقد صرَّح نائب الرئيس السوري ووزير الخارجية السوري مراراً بأنهم غير معنيين بالمحكمة، لكنهم يُعارضون تسييسها، ويفضلون ألا تتشكل إلا بعد نهاية التحقيق، وبعد إجماع اللبنانيين عليها. وقد كان رهانُ أكثر اللبنانيين لحلّ الأزمة على التواصل الإيراني- السعودي، وأن تستطيع إيران أو مصر التأثير على سوريا من أجل تمرير المحكمة بعد تعديل قانونها بما يطمئن النظام السوريَّ أو رأسه، بجعله غير معرَّضٍ للتهديد. أمّا بعد التقرير السابع هذا فالمرجَّح أن يزداد السوريون رفضاً وتشبُّثاً، وقد لا تنجحُ الوساطات العربية والإيرانيةُ في التخفيف منهما أو تجاوُزهما. ثم إنّ الجوَّ الدوليَّ يزدادُ تلبُّداً من حول إيران بعد أن توافق الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن على إصدار قرارٍ الأسبوع المقبل يشدّد العقوبات عليها. وهكذا فقد لا تكون إيران مهتمةً بتخفيف التوتُّر في لبنان الآن.

وإذا كان بعضُ ما يحدث في إيران من تصريحاتٍ متناقضة يبعث على الاستغراب؛ فالذي يحدُثُ في سوريا أغرب كثيراً. فللمرة الأولى منذ عام 1964 لا يُلقي الرئيس السوري خطاباً من أي نوعٍ في ذكرى ثورة 8 مارس. ويقال إنّ ذلك كان بسبب الخلافات داخل النظام حول علاقات سوريا العربية والدولية. ويقول الأوروبيون الذين زاروا دمشق وآخِرُهُم سولانا إنّ السوريين متشددون بشأن المحكمة وبشأن أمورٍ أُخرى مع لبنان. وعندما ذهب نائب الرئيس السوري فاروق الشرع إلى مصر لمقابلة الرئيس مبارك، أدلى بتصريحاتٍ متشددةٍ بعد الخروج من عنده. ولاشكَّ أنّ مشكلات سوريا مع جيرانها لا تنحصر في رفضها للمحكمة الدولية؛ بل تتناولُ عدة مسائل أُخرى ربما تؤثّر في حضور الرئيس السوري للقمة العربية بالرياض يوم 28/3.

يوم الثلاثاء في 13/3 أعلنت وزارة الداخلية اللبنانية عن اكتشاف مرتكبي جريمة عين علق قرب بكفيا، والتي فُجّر فيها باصان أدّيا لمقتل ثلاثةٍ، وجرح عشرين شخصاً. والمرتكبون ستةٌ من السوريين، قُبض على أربعةٍ منهم فاعترفوا بالجريمة، وقالوا إنهم جزءٌ من quot;فتح الإسلامquot;، وهو تنظيمٌ أعلن عن نفسه قبل شهرٍ ونصف بمخيم نهر البارد للفلسطينيين شمال لبنان. وقد أظهر السوريون غضباً لهذا quot;الاكتشاف المزعومquot;. ويأتي تقرير براميرتس المتّهم لسوريا بشكلٍ شبه صريح، ليزيد من توتر النظام السوري، ومن المشكلات للبنان وفي لبنان. فلا حول ولا قوة إلاّ بالله.