خيرالله خيرالله

لا يمكن الاستخفاف بالمعارضة الداخلية الأمريكية للحرب في العراق ولاستمرار الوجود العسكري الأمريكي في هذا البلد العربي، سابقاً، الواقع تحت الاحتلال منذ أربع سنوات بالتمام والكمال. ولكن لا يمكن في الوقت ذاته الاستخفاف بالرئيس بوش الابن الذي اتّخذ في مارس من العام 2003 قرارا بشن حملة عسكرية لتغيير النظام في العراق ووضع الأسس لنظام جديد يكون نموذجاً لما يفترض أن تكون عليه دول المنطقة. نجح بوش عسكرياً ولفترة قصيرة فقط. لكنّه فشل سياسياً بعدما تبيّن أن لا مشروع أمريكياً للمنطقة بمقدار ما هناك كلام عام عن الديموقراطية لا علاقة له بالواقع.

بعد اربع سنوات من بدء الحملة العسكرية الأمريكية علي العراق والتي توّجت بسقوط بغداد في التاسع من أبريل 2003 ، أي بعد ثلاثة أسابيع من بدء الاجتياح، يبدو الرئيس الأمريكي مصمماً علي رفض استيعاب النتائج التي أسفر عنها قراره بالإقدام علي المغامرة العراقية.

ولهذا السبب، ليس مستبعداً أن تضطر القوّة العظمي الوحيدة في العالم الي خوض مغامرات أخري لتغطية فشلها العراقي. يبدو أن الدول الكبري تتعاطي هذه الأيام في القضايا السياسية علي طريقة الدول الصغيرة ذات الطموحات الكبيرة. أمريكا يمكن أن تعالج نتائج حملة عسكرية فاشلة بحرب أخري والدول الصغيرة الطامحة الي لعب أدوار اقليمية أكبر من حجمها، كسوريا أو ايران مثلاً، تعتقد أن في الإمكان تغطية جريمة بجريمة أكبر منها.. بدليل ما حصل ويحصل في لبنان.

كان أفضل تعبير عن مدي المعارضة الداخلية لحرب العراق، تصويت مجلس النواب قبل أيام علي قرار يدعو الي وضع جدول زمني للانسحاب العسكري من العراق، علي أن ينتهي الانسحاب في أغسطس - من السنة المقبلة. ولم يكتف مجلس النوّاب الذي يسيطر عليه الديموقراطيون بذلك، بل أقرّ أيضا وقف التمويل لحرب العراق. ودفع ذلك الرئيس بوش الابن بالتلويح باستخدام حق الفيتو الذي يمتلكه من أجل إبطال قرار مجلس النوّاب.

يحصل ذلك في واشنطن في الوقت الذي تبدو الإدارة الأمريكية مصرّة علي منع ايران من الحصول علي السلاح النووي. صحيح أن طهران تؤكّد أن برنامجها النووي للأغراض السلمية وأن هدفها الحصول علي التكنولوجيا المتطوّرة لانتاج الطاقة الكهربائية التي تمكّنها من مواجهة نفاد احتياطها النفطي مستقبلاً، إلاّ أن الصحيح أيضاً أن النظام الإيراني يُقدم علي كلّ ما من شأنه إثارة الشكوك في نيّاته بما في ذلك أسر خمسة عشر فرداً من جنود البحرية البريطانية بحجّة أنّهم اخترقوا المياه الاقليمية الإيرانية. قد يكون ذلك صحيحاً كما قد يكون كذلك. لكن الثابت أن احتجاز العسكريين البريطانيين في الخليج جاء قبل ثمان وأربعين ساعة من صدور قرار عن مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة يتضمّن تشديداً للعقوبات علي إيران بسبب برنامجها النووي.

اتُخذ القرار بالإجماع، أي ان روسيا والصين وافقتا علي صيغة النص المعتمد بعد إدخال تعديلات طفيفة عليها. وهذا يعني بطبيعة الحال أنّ علي طهران التنبّه إلي أن الولايات المتّحدة لا تزال قادرة علي تسيير مجلس الأمن في الاتجاه الذي يناسبها بغضّ النظر عما إذا كانت سياساتها محقّة أو ظالمة.
من الواضح أن ادارة بوش الأبن اتّخذت قراراً بالتصعيد مع إيران، علي الرغم من كلّ المعارضة الداخلية التي تواجهها سياستها العراقية.

لم تعد واشنطن تجد مخرجاً من مأزقها العراقي سوي عبر التصعيد. ويبدو أن حلفاءها الأوروبيين، علي رأسهم بريطانيا، ليسوا بعيدين عن قرار التصعيد ذلك أن بريطانيا بدأت تشعر بمدي النفوذ الذي باتت طهران تمتلكه في العراق.

والأكيد أنّه ليس صدفة أن أسر إيران جنود البحرية البريطانية أتي بعد ساعات من تأكيد ضابط بريطاني أن ايران تتدخل في الشؤون العراقية وأنها تشجع الاعتداءات علي القوّات الدولية وتجنّد عراقيين وتدرّبهم لهذا الغرض وتدفع مبلغ خمسمئة دولار أمريكي لكل منهم شهرياً!

اختارت إيران بدورها التصعيد من منطلق أن لديها أوراقها الكثيرة التي تسمح لها بالذهاب إلي النهاية في تطوير برنامجها النووي بغض النظر عن القرارات الصادرة عن مجلس الأمن. لا تدرك طهران أن هذه القرارات ذات طابع سياسي أوّلاً وأنّ ليس في الأمكان التعاطي معها إلاّ من هذه الزاوية.

ولكن ما العمل مع نظام يعتقد أنّه المنتصر الأوّل والأخير من الحرب الأمريكية علي العراق وأن عناصر تابعة لأجهزته صارت منتشرة في كلّ الأراضي العراقية بما في ذلك بغداد حيث تتولي حماية مسؤولين في أحزاب كبيرة معيّنة، في حين أنّ الجنوب أشبه بمحافظة إيرانية أكثر من أيّ شيء آخر. أكثر من ذلك، أثبتت طهران قدرتها علي ممارسة نفوذها في العراق عندما أصرّت علي إعدام الرئيس السابق صدّام حسين إثر ادانته في قضية مرتبطة بمحاولة إغتيال تعرّض لها تقف أجهزتها خلفها مؤكّدة حقها في الثأر من الرجل الذي خاض معها حرباً استمرّت ثماني سنوات.

كان لدي إيران حساب تريد تصفيته مع صدّام وأخيه برزان التكريتي وعوّاد البندر وطه ياسين رمضان الجزراوي. أُعدم الأربعة بناء علي أصرار منها كي تبعث برسالة لكلّ من يعنيه الأمر فحواها أنّها صاحبة القرار النهائي في العراق. أمّا أسر الجنود البريطانيين قبل أيام، فيندرج في السياق ذاته، أي في إفهام من لم يفهم بعد أن الأمريكيين والبريطانيين في العراق مجرّد رهائن لديها...

لا يتوقف النفوذ الإيراني عند حدود العراق، بل يشمل أيضاً سوريا التي بات النظام فيها تحت رحمة طهران عندما اعتبر أن عليه ملء الفراغ الذي خلّفه انسحاب جيشه من الأراضي اللبنانية في أبريل من العام 2005، نجح النظام الإيراني في التعويض عن الخروج السوري من لبنان بفضل حزب الله الذي هو في الحقيقة لواء في الحرس الثوري الإيراني عناصره لبنانية. صار لبنان رهينة لدي النظام الإيراني وحصل بعد ذلك تجيير للرهينة للنظام السوري. والملاحظ أن حزب الله يسيطر حالياً بعناصره المنضبطة علي قلب بيروت ويعطّل الحياة الاقتصادية والسياسية في البلد أرضاء للنظام السوري لا أكثر.

وفي حال كان المطلوب الذهاب إلي أبعد، نجد إيران حاضرة في فلسطين. لولا التسهيلات الإيرانية لما كان في الأمكان توقيع اتفاق مكّة برعاية سعودية بين فتح و حماس . وإلي أبعد من فلسطين، يمكن الذهاب إلي اليمن حيث الدور الإيراني في إثارة النعرات المذهبية في بلد لم يعرف مثل هذا النوع من النعرات.

واللافت أن موقع القلاقل في اليمن منطقة قريبة من الحدود السعودية مع ما يعنيه ذلك من قدرة لدي طهران علي ممارسة عملية تطويق لدول الخليج العربية من كل الجهات.

ثمة من يعتقد في طهران أن من يمتلك كلّ هذه الأوراق يحقّ له المطالبة بدور كبير علي الصعيد الإقليمي بما في ذلك تطوير برنامج نووي خاص به وضرب الحائط بقرارات مجلس الأمن حتي عندما تصدر قراراته بالإجماع.

المخيف أن النظام الإيراني لا يدرك أنّه يتعاطي مع إدارة أمريكية لا تتواني عن الذهاب بعيداً في قراراتها وأن المأزق الأمريكي لا يعني أن الولايات المتحدة ستنسحب من العراق وتتركه للفوضي... أو لإيران. باختصار شديد، لا يمكن للقوة العظمي الوحيدة في العالم الانسحاب من العراق، أقلّه في المدي المنظور، لأنّ ذلك سيعني انتصاراً باهراً لإيران يسمح لها بالتحكّم باحتياطات النفط والغاز في العالم، أو بمعظمها في حال كان المرء يريد أكثر دقّة. عندئذ لن يأتي رئيس أمريكا إلي طهران لطلب رضا المرشد ، هذا في حال قبل المرشد استقباله، فحسب، بل سيضطر كلّ زعماء العالم الصناعي من اليابان، إلي الصين، إلي الهند، إلي زعماء دول جنوب آسيا... إلي زعماء أوروبا إلي اعتبار العاصمة الإيرانية قبلتهم.

الأمل أن تتغلّب لغة العقل والحكمة في طهران وواشنطن. المنطقة لا تتحمّل حرباً جديدة يصعب التكهن بما ستسفر عنه من نتائج. تكفي مصيبة حرب العراق التي تسبب بها جورج بوش الابن والتي أيقظت كلّ أنواع الغرائز ذات الطابع المذهبي في كلّ أنحاء المنطقة. مصيبة واحدة تكفي ولكن هل من يدرك خطورة التصعيد أكان ذلك في طهران أو واشنطن؟

(كاتب لبناني)