الجمعة 30 مارس 2007
د. أسعد عبد الرحمن
في 28 أغسطس 1988، اتفقت الولايات المتحدة وروسيا على إتلاف 2611 من الصواريخ الموجودة في ترسانتهما الحربية من طراز quot;بيرشينجquot; الأميركية وquot;أس أسquot;، الروسية التي ظلت لسنوات تثير الرعب من حصول حرب نووية عالمية، تلتها بداية تقارب بين موسكو وواشنطن ونهاية الحرب الباردة بين الشرق والغرب، ومن ثم انهار جدار برلين بعد عام واحد، وانهارت معه الإمبراطورية السوفيتية. حينها، رأى الرئيس الأسبق جورج بوش أن الوقت قد حان لإعلان قيام نظام عالمي جديد يقوم على الأحادية القطبية. منذ ذلك الوقت، انفردت الولايات المتحدة باستعراض قوتها العسكرية مما أدى إلى غضب روسيا جراء الخسائر الكثيرة التي منيت بها سياستها التي حاولت أن تقوم على الدبلوماسية، حتى جاء مؤتمر الأمن في ميونيخ في فبراير الماضي، حين quot;بق الرئيس فلاديمير بوتين البحصةquot;، كما يقول المثل الشعبي، وأعلن عودة ظهور روسيا قوة عظمى، وحذر واشنطن من محاولات حكم العالم، مهاجماً سعيها الحثيث لزيادة التسلح وإعادة إحياء مشروع حرب النجوم من خلال عسكرة الفضاء، واستخدام تقنية عسكرية فائقة جديدة متمثلة في خطط واشنطن نصب أنظمة مضادة للصواريخ في بولندا والتشيك، والتمدد لاحقاً إلى أوكرانيا والقوقاز وجورجيا وأذربيجان، الأمر الذي اعتبره بوتين تهديداً صريحاً لأمن روسيا.
الأقرب إلى الواقع، أن شبكات الصواريخ الأميركية الجديدة المعروضة على بولندا وتشيكيا، هي استكمال للطوق الصاروخي الأميركي لمحاصرة روسيا. وبحسب وزير الدفاع الروسي، فإن هذا التطور يخل بميزان القوى في أوروبا. أما من منظور الجنرال quot;نيكولاي سولفتسوفquot; قائد القوات الاستراتيجية الروسية، فإن وجود هذه الصواريخ في بولندا وتشيكيا يمثل إعلان حرب على روسيا quot;وحتى الآن لم نرَ شيئاً. ولكن إذا قررت الحكومتان، البولندية والتشيكية، استضافة الدرع الصاروخي الأميركي، فستكون صواريخنا قادرة على استهدافها وتدميرها إذا تم اتخاذ قرار سياسي بهذا الشأنquot;. يظهر مما سبق أن العالم الآن يستعد لمنافسة جديدة بين موسكو وواشنطن تعيد إحياء الحرب الباردة بين القطبين السابقين، ستكون بالتأكيد مغايرة للحرب السابقة خاصة مع وجود قوى أخرى، على رأسها الصين، وأخرى تسعى لذلك مثل فرنسا وألمانيا والهند. وإن كان الأمر لا يخرج عن إطار صراع الأقوياء الذي لا مكان لنا كعرب فيه quot;سوى التبعيةquot; لهذه القوة أو تلك، إلا أن تعدد القطبية أخف وطأة علينا من القطبية الأحادية الأميركية التي نجحت في إلحاق الأمم المتحدة بدوائر وزارة خارجيتها، وأصبح quot;الفيتوquot; الأميركي ماركة أميركية مسجلة في ظلم الشعوب وفي حماية المعتدي، فخلقت لنفسها ذراعاً اقتصادية قوية، تتمثل في quot;منظمة التجارة العالميةquot;، والتي مررت من خلالها أفكار العولمة الاقتصادية التي جاءت كارثية على العالم النامي ولم تحقق ما كان يرجى منها من أهداف تنموية حقيقية، فضلاً عن أنه (ضمن منطق التفرد بالقرار العالمي) خلقت الإدارة الأميركية ما تسميه بـquot;الحروب الوقائيةquot; تحت زعم محاربة الإرهاب، حين وضعت في الخندق المعادي لها كل من لا تتفق مصالحه مع مصالحها، حتى وإن كان ذلك عن طريق الديمقراطية التي رفضتها، سواء في فلسطين أو أميركا اللاتينية لأنها تمخضت عن نتائج لا تتفق معها، وسوغت لغزو العراق وأفغانستان فخلقت الأكاذيب والذرائع، وأعطت، وما زالت تعطي، الضوء الأخضر لمزيد من القهر والإذلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأخذت قرار غزو لبنان الأخير أو إطالته!
لقد بدأت تتجلى ملامح بدايات العالم الجديد المتعدد الأقطاب شيئاً فشيئاً مع عودة روسيا والصين بوصفهما قوتين قررتا الوقوف في وجه التمدد الأميركي، بعد أن أدركتا أن بإمكانهما استثمار ضعف وتخبط الولايات المتحدة التي تعرض نفسها للنقد بسبب حربها غير الشرعية على وليدها الإرهاب. بل إن أوروبا أيضاً تحاول، ولو quot;على استحياءquot;، العودة إلى جارها التاريخي (الشرق الأوسط) لتزيد من نفوذها فيه، وها نحن نرى ألمانيا (منذ تسلمها رئاسة الاتحاد الأوروبي) تعمل على إحياء دور quot;اللجنة الرباعيةquot; وتفعيل quot;خريطة الطريقquot; التي أصبحت حبراً على ورق بسبب الموقف الأميركي. ورغم ذلك، فأكثر ما يقلق واشنطن راهناً هو روسيا والصين، الأولى لتمسكها بحماية إيران وملفها النووي، وارتفاع نسبة مبيعاتها من السلاح لدول العالم المختلفة، والثانية لاجتياحها العالم بأكمله اقتصادياً بداية من آسيا ومروراً بالشرق الأوسط وانتهاءً بأوروبا وأميركا. لقد ظهر المحور الروسي- الصيني بقوة خلال عام 2006 أثناء مناقشات عدد من الملفات الساخنة وخصوصاً الوضع في الشرق الأوسط، والأزمة النووية الإيرانية، وكذلك الوضع في شبه الجزيرة الكورية، إضافة إلى ملف العلاقات في منطقة آسيا الوسطى والأوضاع في أفغانستان. فبحسب المحللين الروس أنفسهم، بدأت موسكو نسج علاقات تحالف مع التنين الآسيوي، رغم المشاكل الراكدة تحت السطح بين البلدين وأهمها زيادة النشاط الصيني في مناطق شرق آسيا. كما حدثت تغييرات حاسمة في علاقات روسيا بجيرانها الأوروبيين تراوحت بين توجهات لشراكة استراتيجية ومواجهة هادئة حيناً وساخنة أحيانا أخرى مع quot;أوروبا الجديدةquot; التي باتت تضم العديد من الدول الاشتراكية السابقة. لكن المواجهة الأميركية/ الروسية المتزايدة، وبحسب المحللين الروس أيضاً، سببها إصرار واشنطن على عدم الاعتراف بضخامة التحولات التي شهدتها روسيا خلال العقد الأخير ومواصلة التعامل مع موسكو بمنطق الغالب والمغلوب الذي انتهت إليه الحرب الباردة، رافضة الاقتناع بأن روسيا عام 1994 التي استجدت صندوق النقد الدولي وقدمت تنازلات، هي غير روسيا عام 2006 القوية.
لقد دشن الاتحاد الروسي موقعه كقطب دولي يسعى لإعادة أحلام الدب الروسي الذي خرج من تخبطه بل ونومه لمدة ظن كثيرون معها أنه كان قد دخل في غيبوبة أبدية! وها هي روسيا تسعى لحجز مكانة لها في خريطة العالم المستقبلية، والتي باتت تطل برأسها بقوة الفشل الأميركي المتكرر على أكثر من صعيد. ففيما نرى الصين غير مستعجلة، نرى روسيا تحث الخطى حيث لا يخفي رئيسها نزوعه لاستعادة المكانة التي كان يحتلها الاتحاد السوفييتي السابق، ويسعى لإعادة توازن العلاقات الدولية، والتصدي للأحادية الأميركية التي تجتاح العالم. ورغم كل التصعيد اللفظي وتعابير القلق، فإن quot;الرسالةquot; الروسية للولايات المتحدة لا تعدو كونها مجرد رغبة روسية بمشاركة أميركا في منطقة الشرق الأوسط، ففي ظل الظروف الدولية الحالية، لا تستطيع روسيا ولا تسعى لخلق هوة عميقة في علاقتها مع الولايات المتحدة. لكن من الواضح أن معادلات جديدة نشأت في العالم ومن المؤكد أننا أمام إرهاصات تبلور خريطة جديدة تتشكل في ظل النظرة الروسية والصينية والأوروبية لضرورة التعددية القطبية.
التعليقات