د. سيّار الجميل

لقد كان من حسن الحظ أن أشارك بخطاب عن التجربة الديمقراطية في العراق الجديد ضمن محور عنوانه quot; هل يحتاج إرساء الديمقراطية في المنطقة إلى تدّخل دولي ؟ quot; في منتدى الدوحة السابع للديمقراطية والتنمية والتجارة الحرة ، للفترة 23- 25 ابريل 2007 . وقد افتتح المنتدى بحضور سمو أمير دولة قطر ومشاركة عدد من الشخصيات في العالم فضلا عن العديد من القادة والمسؤولين والسفراء والمديرين والأساتذة الأكاديميين والمفكرين . ولقد دارت كل المحاور حول التحولات الاقتصادية وحقوق الإنسان والإمبراطورية وصراع الحضارات والتجارة الحرة وعدم التوازن بين الشمال والجنوب والإصلاح السياسي بين البرامج الوطنية والمشاريع الخارجية وتحديات بناء الديمقراطية من المنظور العالمي والإقليمي والتنمية في محددات المستقبل بين الإصلاح الإداري والتنمية والإعلام : حرية الإعلام بين الحقيقة والتضليل ومبادرة الإصلاح العربي بالإجابة على تساؤل يقول : هل يحتاج إرساء الديمقراطية في المنطقة إلى تدخل دولي ؟ وأخيرا : الديمقراطية : العرب والغرب والديمقراطية .
لقد كانت تظاهرة كبرى حقا دارت كل الخطابات في المحاور المهمة التي تشغل بال كل المفكرين والساسة اليوم في عالمنا المعاصر .. وإذا كان هناك ثمة إجماع حول مسائل التنمية والإدارة والتجارة الحرة .. فان اغلب الخلافات قد حدثت حول تعريف الديمقراطية ومفاهيمها المضطربة ليس في ثقافتنا السياسية العربية ، بل لدى العديد من المسؤولين في العالم في رؤيتهم لها إزاء الشرق الأوسط . لعل من أكثر ما أثار استغراب المنتدين ما تقدم به النائب البريطاني المستر جاك سترو وزير الخارجية البريطانية الأسبق عندما أطلق أحكاما لا مصداقية فيها أبدا ، ولم يعر مأساة العراق أي اهتمام في خطابه ولم يذكرها ولو لمرة واحدة في حين انه كان في السلطة عندما تابع العالم كله التغيير الصاعق في العراق من دون النجاح في إيجاد وخلق بدائل حقيقية تكرس الأمن والاستقرار في العراق .. لقد نجح الرجل في اللف والدوران عندما أطلق وصفه للديمقراطية مشبها إياها بسلعة بين دولتين وان الديمقراطية يمكن إهداءها للشعوب !
انه حقا كلام يثير الاستياء يا جاك .. وهذا ما حدا بالأستاذ عمرو موسى أن يرد بقوة على جاك سترو مذكرا إياه بالعراق . وهل يمكن أن يكافئ أي شعب بـ quot; ديمقراطية quot; تحرق البلاد وتقتل العباد وتلغي المؤسسات وتشعل الفتن .. وهذا لا يمكن قبوله أبدا ؟ وبعكسه أنصتنا إلى السيد كي مون السكرتير العام للأمم المتحدة الذي قدّم تعريفا متوازنا ، وقد أعجبني قوله بالنص :
quot;Democracy can not be imported or exported. It can be only supportedquot;
أي أن : quot; الديمقراطية لا يمكن استيرادها أو تصديرها . يمكن فقط إسنادها quot; .
صحيح أن خطاب السيد كي مون كان قبل كلمة جاك سترو ، لكن الأخير لم يفكر بما قاله الأول .. بل ولم يتأمل قليلا في أن الظواهر الفكرية والسياسية الكبرى في التاريخ ليست مجرد أشياء بسيطة نستوردها من هذا أو نصدّرها لذاك .. أبدا ! إن المبادئ والأفكار والظواهر يمكن أن تتأثر بها النخب العليا وتستلهمها الشعوب على مهل لكي تطبقها على مقاساتها وضمن الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يحياها أي مجتمع من مجتمعات الدنيا .. ناهيكم عن أن quot; الديمقراطية quot; لا تمثلها آلية صندوق انتخابي فقط ، بل هي منظومة كاملة لأسلوب حياة ، يستوجب أن تبدأ مع الإنسان منذ صغره حتى آخر لحظة من حياته في كيفية تعامله مع الدولة والمجتمع والآخر ومدى علاقته بالحريات والقوانين وما هي حقوقه وواجباته .. وفي ظل مناخ متكافئ من المؤسسات المدنية وحقوق الإنسان .
إن الديمقراطية لا يمكن تسويقها في أي منطقة من العالم بواسطة التدخلات الدولية الخارجية ، وقد أثبتت التجارب التاريخية بأن المجتمعات في كل العالم ، لا يمكن التعامل معها بهذه الطريقة التي ثبت فشلها ما لم تتأهل أجيالها على الحياة المدنية والتعامل مع مؤسسات المجتمع المدني التي تؤهل كل من المجتمع والدولة على طبيعة الفصل بين السلطات واحترام الدستور والامتثال للقانون وممارسة الحريات .. إن الديمقراطية لا يمكن أن تكون ورقة ضغط في السوق الدولية لممارسة الضغط من خلالها على دول أخرى .. بل ولا يمكن أن تمارسها دول كبرى ورقة ضغط على دول صغرى معينة دون أخرى .. ولا يمكن للدول الكبرى أن تبقى لعقود طوال ساكتة على ممارسة الدكتاتوريات والشموليات في عدة دول ، وفجأة تنتبه إلى فقدان الديمقراطية كي تبدأ بتصديرها بوسائل سريعة لا تتلاءم ومنطق التاريخ ، فتجني ليس على المجتمعات بكل نخبها وجماهيرها ، بل تجني على فكرة الديمقراطية وفلسفتها وآلياتها الرائعة واختزال تاريخها الصعب في لحظة زمنية غير ملائمة وغير مناسبة وغير مؤهلة ..
إن ما قاله جاك سترو في كلمته المتعجلة لا يستوي ومكانته ، كان عليه احترام الظاهرة نفسها .. وإنني واثق بأن ضروراته السياسية قد فرضت عليه كلاما منحرفا عن الحقائق.. وهو يرى التجارب التي سوّقت على عجل في مجتمعات تعيش فراغا امنيا وسياسيا ، بل وان التجربة العراقية المريرة يمكن أن تكون مثلا تاريخيا فاضحا ، إذ لا يمكن أن نتخيل بلدا يطوف في بحر من الدماء والولايات المتحدة تستعجل تطبيق quot; ديمقراطية quot; مستوردة فيه ، فأساءت حتما للديمقراطية نفسها إساءات بالغة .. وباتت الشعوب تقول: ( ها هي ذا تجربة الديمقراطية ) ! بل وأنها تجربة قدّمت خدمة لا تثّمن إلى أي دكتاتور أو لمن يقف ضد الديمقراطية ، إذ غدت التجربة الفاشلة مثلا جاريا . شكرا للمناسبة التي أتاحها لنا منتدى الدوحة للديمقراطية والتنمية .. فقد أثار موضوعات غاية في الأهمية والخطورة.

www.sayyaraljamil.com