جهاد الخازن

بغداد اليوم شعراً.

كنت أقرأ، للمرة الثالثة، كتاب أمين الريحاني laquo;ملوك العربraquo; فوقعت فيه على شعر لمعروف الرصافي هو أصدق اليوم من يوم قاله قبل ثمانين سنة أو نحوها.

قرأت له:

من أين يرجى للعراق تقدم وسبيل ممتلكيه غير سبيله

لا خير في وطن يكون السيف عند جبانه والمال عند بخيله

والرأي عند طريده والعلم عند غريبه والحكم عند دخيله.

الرصافي شكا وعنده ثورة العشرين التي نهض بها الشيعة قبل السنّة، وقبل أن يعرف البلد تفرقه طائفية واقتتالاً، فماذا كان قال لو رأى حال العراق اليوم؟

هو قال أيضاً:

أمر فتنظر الأبصار شزرا الي كأنما قد مر ذيب

سكنت الخان في بلدي كأني أخو سفر تقاذفه الدروب

وعشت معيشة الغرباء فيه لأني اليوم في وطني غريب

أبو يعقوب (اسحق) الخريمي رثا بغداد في أواخر القرن الثاني الهجري، قبل هولاكو وصدام حسين والأميركيين. وكتب التاريخ تقول إن الحكم فيها كان للعباسيين، وكانت بغداد شهدت حرباً أهلية سنة 809 ميلادية بين الأمين والمأمون، ثم قتال أنصار المأمون مع ابن عمه ابراهم بن المهدي، فلم يدخل المدينة إلا وقد دمر وسطها:

الخريمي قال:

قالوا ولِم يلعب الزمان ببغداد وتعثر بها عواثرها

إذ هي مثل العروس بادئها مهوّل للفتى وحاضرها

فلم يزل والزمان ذو غِيَرٍ يقدح في ملكها أصاغرها

حتى تساقت كأساً مثملّةً من فتنة لا يقال عاثرها

وافترقت بعد إلفة شيعا مقطوعة بينها أواصرها

وبعد أن يتحدث الشاعر عن قصور بغداد وجنائنها، وعن لذاتها وأسباب السرور بها يقول:

يا بؤس بغداد دار مملكة دارت على أهلها دوائرها

أمهلها الله ثم عاقبها لما أحاطت به كبائرها

بالخسف والقذف والحريق وبالحرب التي أصبحت تساورها

حلت ببغداد وهي آمنة داهية لم تكن تحاذرها

طالعها السوء من مطالعه وأدركت أهلها جرائرها

من يرَ بغداد والجنود بها قد ربّقت حولها عساكرها

يحرقها ذا وذاك يهدمها ويشتفي بالنهاب شاطرها

لم تجتلِ الشمس حسن بهجتها حتى اجتلتها حرب تباشرها

ويختتم بالسؤال:

هل ترجعن أرضنا كما غنيت وقد تناهت بنا مصائرها

رجِعَتْ الى حين ثم تراجعت، وهولاكو دمرها سنة 1258 ميلادية وقتل آخر خلفاء العباسيين ومئات الألوف من أهلها.

بعد ألف سنة من أبي يعقوب الخريمي قام عبدالغني الحجيل ليرثي بغداد مرة أخرى، فقال:

لهفي على بغداد من بلدة قد عشعش العز بها ثم طار

كان بها للنفس ما تشتهي كجنة الخلد ودار القرار

واليوم لا مأوى لذي فاقة فيها ولا في أهلها مستجار

حل بها قوم وهم في عمى ما ميّزوا أشرارها والخيار

وأصبح القرد بها مقتدى يلعب بالألباب لعب القمار

والليث قد غاب وفي غابه قطبا غدا الثور عليه المدار

قد نعق البوم على جدرها يصيح بالناس البوار البوار

بغداد كم أخنى عليها الذي من أسره لا يستطاع الفرار

لا أعرف ماذا حدث في القرن التاسع عشر ما حمل الشاعر الحجيل على رثاء بغداد، غير أنني أغامر من دون الرجوع الى كتب التاريخ بالقول إنه كان أخف وطأة وأرحم مما تعاني بغداد اليوم.

ربما كان الأمر ان العراقي، قديماً وحديثاً، ينعى حظه، حتى انه اذا غنى قال laquo;يابا يابا يابا معود على الصدعات قلبيraquo;، وفي النهاية وافاه سوء الحظ بشكل فاق الحقيقة والأغنية.

احفظ شعراًَ عن بغداد قادتني اليه الصدفة، فقد كنت أبحث عن معنى laquo;زنديقraquo; في القاموس laquo;محيط المحيطraquo; ووجدت المعنى المطلوب، إلا انني وجدت معه بيتين من الشعر أرجو أن تكون روايتي لهما صحيحة هما:

بغداد دار لأهل المال طيبة وللمفاليس دار الضنك والضيق

ظللت حيران أمشي في أزقتها كأنني مصحف في بيت زنديق

البيتان للقاضي عبدالوهاب المالكي الذي ضاقت به الحال في بغداد، فرحل عنها، وخرج أهلها يودعونه وهم يبكون فقال: والله يا أهل بغداد لو وجدت عندكم رغيفاً كل يوم ما فارقتكم.

ومثله في الشكوى ابن نصر بن أحمد بن الحسن، أحد أئمة المالكية، فقد ضاقت به الحال في بغداد فارتحل عنها الى مصر وقال:

سلام على بغداد في كل موقف وحق لها مني السلام مضاعف

فوالله ما فارقتها عن ملالة وإني بشطي جانبيها لعارف

ولكنها ضاقت علي بأسرها ولم تكن الأرزاق فيها تساعف.

الشكوى قديماً وحديثاً هي من الغلاء. ولو عاش الشاكي القديم حتى اليوم، وجاء لندن، لأدرك كيف تكوي نار الغلاء جلودنا كل يوم.

أعود الى أمين الريحاني وكتابه laquo;ملوك العربraquo; فهو يبدي اعجاباً كبيراً بالمستشرقة جيرترود بيل، وكانت رئيسة القسم الشرقي في دار الانتداب والمساعدة الرئيسية للمندوب السامي السير بيرسي كوكس. والريحاني يقول إنها laquo;آية النساء في العراق، وشمعة سياسته الخاتون جيرترود بيلraquo;.

ما أذكر عنها قولها في إحدى رسائلها بعد قمع ثورة العشرين ان العراقيين يحلمون بعودة طاغية ليحكمهم مرة أخرى. وأعتقد أنهم عادوا يحلمون اليوم.