أحمد جابر

رافق شعار الحسم عمليات الجيش اللبناني ضد منظمة laquo;فتح الإسلامraquo; في مخيم نهر البارد. جرى الشعار على ألسنة كثيرة، من دون تدقيق في مضمونه ووجهته، ومن دون توقف أمام شروط تحققه، ومن دون استعراض للمغزى السياسي الذي يجب أن ينطوي عليه كسر laquo;النبتة الهجينةraquo; التي ألقيت في الحقل الفلسطيني، والصعوبات المتشابكة التي قد تعترض عملية الكسر المرجوة.

نبدأ من الميدان، لوضع مرجعية قياسية لدى التدقيق في معطيات النجاح أو الفشل، التي يمكن نسبتها الى نتائج العمليات القتالية. في هذا الخصوص لا بديل من الاحتكام الى أصل الخطة الموضوعة من جانب الجيش اللبناني، للوقوف على جملة الأهداف التي حددتها الخطة لنفسها... هذا يعصم المقاربة اللاحقة من الإفراط في التطلب، أو المبالغة في الانتقاص من شأن الانجاز، مما اعتادته وخبرته ساحة السياسة والإعلام في لبنان. يتضمن شعار الحسم الواضح والناجز، في شقه العسكري، إلغاء قدرة الخصم على القتال، من خلال تدمير قواه الأساسية، أو شل وتعطيل مجمل قدراته ومنعه من استخدامها... من خلال وسائل متعددة، فيها استعمال القوة المتاحة بمقادير، وفيها التهديد بالقوة من دون استعمالها، من طريق خلق شروط عامة تجعل عدم القتال، الوسيلة الأقل كلفة للخصم، كنتيجة لحساباته الخاصة، ولمعرفته بوضعه القتالي العام، وشروطه السياسية، المواتي منها وغير المواتي... هكذا يتأتى الحسم، أي تحقيق الهدف من المعركة، من طرائق متنوعة، أحدها، أو الأهم فيها، المسلك الميداني الصعب. على صعيد الواقعة المحددة، أي الاشتباكات في مخيم نهر البارد، يبدو الحسم العسكري، بالمعنى المتعارف عليه، صعباً ومكلفاً، لكنه ضروري، خصوصاً عندما يجري ربط الشق القتالي بتتمته السياسية... على هذا الصعيد تتداخل بنود الخطة العملانية، التي قد يكون من أولويتها: إحكام الطوق على laquo;المنظمة الوافدةraquo;، وتدمير نقاط تمركزها الأساسية، وقتل أكبر عدد من أعضائها، ودفع من يتبقى منهم الى حالات فرار أو إلقاء سلاح واختباء... أو تسليم إن أمكن. أما التتمة لذلك، فكامنة في السياسة التي تفترض استرجاع المخيم laquo;من خاطفيهraquo;، بواسطة اجراءات أمنية واجتماعية وسياسية، تمنع تحويله الى نقطة انطلاق لتوتير مستديم مع الجوار اللبناني، أو الى قاعدة تأسيسية لحالة من حالات laquo;الانفلات السياسي المعممraquo; على الانتظام اللبناني العام. نكاد نقول ان laquo;الحسم السياسيraquo; حيال الظاهرة المتطرفة، التي أسست لها laquo;فتح الإسلامraquo;، هو المطلوب، قبيل العملية العسكرية التي يقوم بها الجيش اللبناني، وبعدها، هذا لأن توقيت ولادة الظاهرة laquo;الإسلاميةraquo; هذه، ووظيفتها، ودورها المرتقب... كلها أمور تقع في صلب السياسة التي تريد النيل من الاستقرار اللبناني، مثلما تريد منع استعادة ما أمكن من مقومات السيادة اللبنانية. هذا يفتح الموضوع على نقاش: ما السياسة المقلقة، وما القلاقل التي يُراد لهذه laquo;المنظمة الأصوليةraquo; القيام بها؟ ثم ما السياسات الفلسطينية واللبنانية حيالها؟ وما المضمر في المواقف الشاجبة لأفعال laquo;فتح الإسلامraquo;؟ والمواقف المتريثة؟ وما معنى الصمت الحقيقي الذي اعتمده البعض حيال أصل laquo;الظاهرةraquo; مكتفياً بالتساؤل، غير البريء، حول تمويلها ورعايتها وغض الطرف عنها؟ من البديهي أن الخوض في الإجابة عن هذه الأسئلة، وسواها، على صلة وثيقة بالاستقطابات اللبنانية الداخلية، مثلما أن الارتباط شديد بين الملفين اللبناني والفلسطيني، والملفات الاقليمية. وبالتالي، لا بدّ من ملاحظة التداخل بين مجريات الهموم اللبنانية، وبين سياسات التدخل الوافدة من خلف الحدود الوطنية. وسط لوحة التداخل هذه تسهل رؤية التجاذب المستمر بين إرادة تسعى الى قيام الدولة، المتمتعة بشيء من الاستقلال والسيادة والقدرة، وبين إرادة تجهد لمنع بلوغ هذه القيامة. تقع كل ارادة خارجية في هذا المجال، على ارادات لبنانية منقسمة حيال مواضيعها، وبلغ الاختلاف بينها ذروة صار يحس عندها بمسلّمات الشأن الوطني وبديهياته... أما الموقف من القتال الدائر في الشمال فمثال ساطع على ما نذهب اليه.

في هذا المقام لم يعد مفهوماً بعض الكلام الذي يدعو الى laquo;التعقلraquo; من دون أن يردف عقلانيته بمرادفاتها العملية، مثلما لم يعد مفهوماً الكثير من الصمت، الذي صارت معادلته المضمرة أن كل نجاح للجيش سيكون مصدر قوة لفريق من الفرقاء الداخليين! أما الأغرب من ذلك، فاسترسال الكثيرين في الحديث عن laquo;المؤامرةraquo;، من دون تحديد مصدرها، ومن دون ايحاء بالخلفيات السياسية التي تحركها وتقف وراءها.

في محاولة لرصد بعض أهداف الاشتباكات التي بادر اليها مسلحو laquo;فتح الإسلامraquo;، يمكن إيراد الآتي: أولاً يراد للقتال المندلع فوق أرض المخيمات وانطلاقاً منها، أن يعيد استحضار المخاوف من العامل الفلسطيني، الديموغرافي والسياسي، وعلى خلفية التوطين والإخلال بتوازن التشكيلة اللبنانية. ثانياً، يهدف الاشتباك الى النيل من laquo;هيبة الدولةraquo; اللبنانية وإظهارها في مظهر العاجز عن فرض سلطته على أرضه، بحيث تسمح حالة الشمال ببروز حالات أخرى، بما يؤسس لزعزعة كامل الهرمية الرسمية اللبنانية. ثالثاً، يرنو مفتعل الاشتباك في شمال لبنان الى تأسيس الأرض السياسية مجدداً للحديث عن laquo;الأمن المستعارraquo; بحيث لا تكون إثارة هذه المسألة مستغربة، بتأثير من الأحداث المندلعة وانسجاماً مع ما تسفر عنه من نتائج. في إزاء ذلك، لا تبدو الحساسية السياسية اللبنانية واحدة، بل ان من المنصف القول ان النظرات الى خطورة laquo;الشأن الشماليraquo; ليست موحدة، وليست على مستوى واحد من تحمل المسؤولية الوطنية، وبالتالي فإن جهلاً مقصوداً أو متعمداً يسم بعض هذه النظرات ويقود خطى مواقفها.

بالتأسيس على ما ورد، تمكن العودة الى القول ان حسم ظاهرة laquo;التفلتraquo; التي تمثلها laquo;فتح الإسلامraquo; يقتضي تضافر عاملين لا انفصام بينهما: عامل الإجماع الوطني اللبناني، الذي يجب أن يستشعر فرقاؤه خطورة ما يدبر لبلدهم، وعامل القوة العسكرية، التي يشكل الجيش عمادها الشرعي الوحيد.

على هذا الطريق، قدّم الفلسطينيون، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، مساهمتهم الوازنة في رفع الغطاء الفلسطيني عن laquo;منظمة الفتنةraquo; وبادروا سريعاً الى اطفاء فتيل laquo;التناقضraquo; اللبناني ndash; الفلسطيني، وأعلنوا أنهم في موقع المتضرر حقاً من وجود laquo;حالة أصولية غريبة عن نسيجهم الاجتماعيraquo;. لقد كان الفلسطينيون محقين في وصفهم، هذا لأن الهدف، فلسطينياً، تبديل ولاء مخيمات اللجوء في لبنان والإمساك بأوراقها في المساومات الاقليمية.

اجتمعت في لحظة مصلحة فلسطينية - لبنانية، قضت باتخاذ موقف متناغم، في وجه حالة انقلابية، على الوضعين اللبناني والفلسطيني، تهدف الى النيل من استقلاليتهما واستقرارهما... كانت laquo;فتح الإسلامraquo; وما زالت، رأس laquo;جبل جليدraquo; هذه المحاولة الانقلابية، لذلك لن يصير الحسم ناجزاً إلاّ عندما تبطل أهداف laquo;المحاولةraquo; في المخيمات الفلسطينية، وفي أرجاء المدى اللبناني الأوسع.