عصام نعمان

دخـل الإسلام الجهادي أخيراً في زمرة اللاعبين المعترف بهم في صراعات المنطقة. في لبنان، نسب البعض إليه دوراً في معارك مخيم نهر البارد. البعض الآخر وضع دوره الافتراضي في إطار تدخّل أوسع لسوريا. في فلسطين، فسّر البعض أحداث قطاع غزة بأنها مظهر من مظاهر صعود الإسلام الجهادي في الأراضي المحتلة عموماً. البعض الآخر عزا الأحداث إلى تحالف laquo;حماسraquo;، بما هي ممثلة الإسلام الجهادي، مع المحور الإيراني ــ السوري على مستوى المنطقة. في العراق، أشار البعض إلى مقتل 6 من زعماء عشائر الأنبار في باحة فندق المنصور البغدادي على أنه دليل ساطع على مدى قوة laquo;القاعدةraquo; ودورها في مقاومة الاحتلال الأميركي. البعض الآخر فسّر المقتلة بأنها قرينة على تحالف ضمني بين الإسلام الجهادي وإيران يرمي إلى إحباط محاولة أميركا بناء جبهة سنيّة عراقية موالية لها ومناهضة لإيران.
مهما تعدّدت التفسيرات فقد بات واضحاً أن حركة الإسلام الجهادي تتزايد على مستوى المنطقة كلها وأنه أصبح لاعباً معترفاً به في ملاعبها. أيّ دور يضطلع به هذا اللاعب القديم ــ الجديد في المنطقة، ولا سيما في لبنان وفلسطين والعراق؟
الإسلام الجهادي ليس فكراً واحداً وجسماً واحداً. إنه جسم لامركزي، إن صحّ التعبير، يتألف من تنظيمات وشبكات وخلايا في أمكنة متعددة، لا رابط تنظيمياً بينها بالضرورة ولا إمرة عليها ولا سلطة تسلسلية من مركز واحد لعدم وجود هذا المركز. لعلها تتبنّى في تفكيرها مقولات أبو الأعلى المودودي وسيد قطب، وتستلهم في تدبيرها النهج السلفي الحركي مع ما أضافه في هذا السبيل من تجارب واختبارات مريدون لهما وأنصار. غير أن ثمة رابطاً سياسياً يجمع بين هذه التنظيمات والشبكات والخلايا ويوحّد نظرتها إلى الأحداث ويسدّد خطاها نحو الهدف، هو موقفها العدائي من الولايات المتحدة الأميركية، وأخيراً وبقوة متصاعدة، من الأنظمة والفئات الحاكمة المتحالفة معها.
في إطار هذا الفهم المبدئي لتفكيره وتدبيره، وفي ضوء الأحداث المارّ ذكرها التي نُسب إليه فيها دور أو فعالية، هل يؤدّي الإسلام الجهادي السلفي بصورة عامة دوراً مستقلاً عن اللاعبين الآخرين الناشطين إقليمياً كأميركا وإيران وسوريا، أو عن الساعين إلى تأدية دور مشارك أو مكمل أو حتى خادم لهؤلاء كمصر والسعودية والأردن ولبنان؟
الحقيقة أن في المسألة قَوْلين، ذلك أن التنظيمات والشبكات والخلايا الجهادية السلفية تؤدي في الواقع، أحياناً، أدواراً تبدو، ظاهراً على الأقل، أنها مفيدة لأميركا أو للأنظمة والقوى المتحالفة معها، وفي أحيانٍ أخرى يبدو دورها معادياً لأميركا وحلفائها ومدمّراً لسياستها ومصالحها.
في العراق، مثلاً، فُسّرت العمليات الدموية التي نظّمها الزرقاوي وأنصاره ضد المقاومة القومية وحلفائها من القوى الوطنية الإسلامية بأنها صبّت في مصلحة الاحتلال وحلفائه المحليين. بينما فُسّر موقف المنظمات الإسلامية السلفية المتعاطفة مع laquo;القاعدةraquo; من العملية السياسية ومعارضتها القاطعة لها، كعملية فندق المنصور الأخيرة، بأنها تتكامل مع كفاح المقاومة القومية والقوى الوطنية الإسلامية المناهضة للاحتلال الأميركي.
في فلسطين، فُسّرت المواقف المنسوبة إلى الشيخ أسامة بن لادن ونائبه الدكتور أيمن الظواهري الرافضة سياسة مفاوضة العدو الصهيوني والمحرّضة على تزخيم المقاومة للاحتلال، ودعم الظواهري أخيراً لحركة laquo;حماسraquo; ضد سلوكية الرئيس محمود عباس وإسرائيل، بأنها تصبّ عموماً في خدمة الكفاح ضد أميركا والاحتلال الصهيوني ومن أجل تحرير فلسطين. قبل أشهر من ذلك، كان فريق كبير من قيادات المقاومة الفلسطينية يأخذ على laquo;القاعدةraquo; عدم مشاركتها في الكفاح المسلح ضد إسرائيل، بل حرصها على مشاغلة نفسها عن فلسطين بعمليات كبرى أو صغرى في ساحات بعيدة منها ولا تؤثر في إسرائيل أو تنال من احتلالها وغطرستها.
في لبنان، نأت المنظمات الإسلامية السلفية المقاتلة بنفسها سحابة ثلاثين سنة عن ممارسة نشاط فاعل على الساحة المحلية. غير أنها لوّحت منذ أشهر ستة أو أكثر باعتزامها التدخّل لمواجهة مخططات أميركا وحلفائها المحليين من دون أي تعاطف مع المقاومة اللبنانية الفاعلة التي قادها حزب الله. ثم ما لبث طرف فيها جديد أو مستجدّ، laquo;فتح الإسلامraquo;، أن افتعل صدامات مسلّحة مع الجيش اللبناني ما لبثت أن امتدت إلى مخيم نهر البارد الفلسطيني، وما زالت تتواصل ولو بحدّة أقل. لمصلحة من افتعلت هذه الصدامات؟
اجتهادات متعددة ظهرت في سياق الجواب عن هذا السؤال، أبرزها اثنان. الأول، كان أدلى به منذ نحو ثمانية أشهر الصحافي الأميركي الأشهر سيمور هيرش في مجلة laquo;ذي نيويوركرraquo;، قدّم فيه أدلة وشواهد على أن دوائر استخبارية سعودية موّلت منظمات إسلامية سلفية متعددة في إطار مجهودها الرامي إلى دعم المنظمات السنيّة المناهضة للقوى الشيعية المتربّصة بها والمدعومة من قبل حكومة نوري المالكي وحلفائه الأميركيين. وإن الاستخبارات الأميركية وقوى سنيّة لبنانية دعمت بالمال والسلاح منظمات مماثلة في لبنان في إطار المخطط المرسوم والرامي إلى النيل من حزب الله وتجريد المقاومة تالياً من السلاح. في المقابل، برز اجتهاد ثانٍ روّجت له قوى 14 آذار المتحالفة مع أميركا ومفاده أن laquo;فتح الإسلامraquo; هي مجرّد ذراع للاستخبارات السورية مكلفة مهمة إثارة الاضطرابات لإضعاف حكومة فؤاد السنيورة وإظهار عجزها عن ضبط الأوضاع الأمنية تمهيداً لإسقاطها وفرض حكومة ائتلافية جديدة تكون لحلفاء سوريا حصّة وازنة فيها. واستغل السنيورة وقوى 14 آذار العملية الدموية البالغة الفظاظة في أقصى الجنوب اللبناني التي أودت بحياة 6 من جنود الكتيبة الإسبانية التابعة للقوات الدولية، ليشير بإصبع الاتهام الى سوريا. هل لدمشق دور في ما يقوم به بعض منظمات الإسلام السلفي من اضطرابات أو ما ينسب إليه منها؟
لا شك في أن سوريا تستفيد من كل حدث أو تدبير أو عملية أمنية تنال من هيبة حكومة السنيورة المعادية لها وتكشف ضعفها وعجزها عن توفير الأمن والسلامة العامة. غير أن اتهام سوريا بأنها تقف وراء اضطراب حبل الأمن في لبنان يحتاج الى تدقيق. فقد ثبت أن حركة laquo;فتح الإسلامraquo; تضمّ في صفوفها مجموعةً من الإسلاميين السلفيين حَمَلَة الجنسيات السعودية واليمنية والأردنية والسورية والفلسطينية، بعضهم قضى سنوات في سجون سوريا، وبعضهم الآخر ملاحق دولياً بواسطة laquo;الإنتربولraquo;، بالإضافة إلى لبنانيين من أهل السنّة ينتمون إلى مناطق وتنظيمات معروفة تقليدياً بعدائها للنظام السوري. ثم إن بعضاً من هذه التنظيمات سبق أن أشهر عداءه لحزب الله وبعضها الآخر أهدر دم قائده السيد حسن نصر الله! فوق ذلك، اعتبر حزب الله أن عملية قتل الجنود الستة من أفراد الكتيبة الإسبانية موجّهة ضده بالدرجة الأولى، وتالياً أخذ على عاتقه مهمة التحقيق فيها ومساعدة القوات الدولية على كشف غوامضها. فهل يُعقل أن تكون سوريا وراء منفّذي عملية تنال من حليفها الأبرز في لبنان؟
خلاصة القول أن الإسلام الجهادي، بمختلف أطرافه، أصبح لاعباً معترفاً به في المنطقة، وأن دوره يصبّ إجمالاً في ما تعتبره هذه الأطراف خادماً لأهدافها الدينية والسياسية. ذلك لا ينفي، في الواقع، أن بعضاً من مواقفه وعملياته خدم السياسة الأميركية وحلفاءها المحليين لأسباب واعتبارات تتصل بأيديولوجيا الإسلاميين السلفيين ومصالح داعميهم من القوى المحلية المتعاونة مع أميركا.
غير أن تطورات ثلاثة مستجدة تشير إلى احتمال نشوء ظاهرة استثنائية وخطيرة في آن. فقد أفصحت أميركا بلسان وزير دفاعها روبرت غيتس عن أنها تخطط للبقاء في العراق عشر سنوات مقبلة على الأقل، الأمر الذي من شأنه احباط مفاوضاتها المتعثّرة مع إيران وإثارة حفيظة طهران ودمشق على السواء. ثم إن سيطرة laquo;حماسraquo; على قطاع غزة أثار حفيظة السعودية ومصر والأردن (فضلاً عن إسرائيل بطبيعة الحال)، الأمر الذي مكّن أميركا من تخويف دول laquo;الاعتدالraquo; العربية وحملها على التعاون مع إسرائيل لمواجهة ما تسميه المدّ الإيراني الإقليمي المتعاظم. بموازاة تخويف عرب laquo;الاعتدالraquo; من إيران، يجري أيضاً تخويفهم من دور سلبي منسوب إلى سوريا ضد حكومة السنيورة والقوات الدولية في الجنوب اللبناني، مقرون بدعوة ضمنية إلى لجمها وترويضها، وربما بشنّ حرب عليها.
هذه التطورات الثلاثة ومفاعيلها قد تدفع إيران، كما سوريا، إلى إقامة تحالف ميداني عملاني مع منظمات الإسلام الجهادي على امتداد جبهة المواجهة مع أميركا (وإسرائيل) من أفغانستان شرقاً إلى فلسطين ولبنان غرباً، مروراً بالعراق وسوريا.
... ويتحدثون، مع ذلك، عن فتنة تهندسها أميركا بين أهل السنّة وأهل الشيعة. بأيّ فتنة يحلمون إذا اتجه الإسلام الجهادي، بجناحيه السنّي والشيعي، على رغم كل الأخطاء والعثرات والنكسات، إلى جبهة ميدانية واحدة في مواجهة المشروع الإمبراطوري الأميركي الصهيوني؟