خالد الحروب


مطلب استدعاء قوات دولية إلى قطاع غزة يعوزه المنطق السياسي ولا يخدم الأهداف الفلسطينية. مثل هذه القوات تكون مطلوبة في أوضاع احتلالية، وهي أجدر بأن تكون موجودة في الضفة الغربية لتحمي الفلسطينيين من الاحتلال الإسرائيلي وليس في قطاع غزة, وهذا يجب أن يُقال بعيداً عن السجال المدمر بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot;. في القانون الدولي يكون هدف أي قوات دولية هو فصل الأطراف العسكرية المتحاربة, أو لحماية المدنيين, وغالباً بموافقة الأطراف المتحاربة. كلا الأمرين غير موجود في قطاع غزة في الوقت الراهن: لا الحاجة إلى فصل بين جيشين متحاربين, ولا الحاجة إلى حماية مدنيين من قوة احتلالية. أما تبرير دعوة أي قوات دولية إلى قطاع غزة بمسوغ الإشراف على إجراء انتخابات فلسطينية مبكرة فإن هذا لا يدعمه منطق قانوني, ناهيك عن الشروط السياسية المفترض الوصول إليها والمهيِّئة لمثل هكذا خطوة. فـquot;حماسquot; حتى الآن ترفض إجراء مثل هذه الانتخابات, فهل من مهمة القوات الدولية فرض إجراء الانتخابات عبر استخدام القوة العسكرية مثلاً؟ أما أن تُناط بهذه القوات مهمة مراقبة الانتخابات فهذا أمر يخضع لسؤال آخر. مهمة التأكد من حسن سير أي عملية انتخابية ونزاهتها وحريتها منوطة بمنظمات دولية محايدة وجمعيات دعم المجتمع المدني, وليس القوات الدولية. وعلى كل حال يبدو الحديث عن هذه التفاصيل ترفاً وهروباً إلى الأمام ينبغي ألا تتيحه بشاعة الظروف الفلسطينية الراهنة والحاجة الماسَّة إلى حل سياسي بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot; قبل التفكير في أي خطوة أو إجراء آخر.

وجود القوات الدولية في قطاع غزة, لو تخيلنا وجودها, سيشجع على تكريس الانقسام الفلسطيني بين quot;فتحquot; وquot;حماسquot; فيتمترس كل طرف منهما على جانب من جانبي الفصل الذي تشرف عليه تلك القوات. وجود هذه القوات كان مطلباً فلسطينياً دائماً عندما تواجد الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة, وليس الآن. آنذاك كان هذا الطلب يصب في اتجاه البوصلة الوطنية الفلسطينية, وليس في اتجاه يشتتها كما الآن. إن كان هناك جهد دولي مطلوب في هذا الشأن فيجب أن يتمثل في المطالبة بجلب قوات دولية إلى الضفة الغربية كجزء أو مرحلة أولية من مراحل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي هناك وحماية المدنيين الفلسطينيين. الوضع الاحتلالي من قبل إسرائيل للضفة الغربية أكثر وضوحاً بما لا يُقاس عند مقارنته بالوضع الاستثنائي والمرفوض في قطاع غزة. هذا من دون التوهم بأن القطاع ينعم باستقلال وتحرر وانفكاك عن السيطرة الإسرائيلية التي ما زال بيدها مصير الفلسطينيين هناك براً وبحراً وجواً.

إسرائيل هي أكثر من يدرك مغزى استقدام قوات دولية على أراضٍ فلسطينية لا تزال تحتلها, لذلك كانت على الدوام ترفض هذا الطلب جذرياً. هذا ما رفضته عندما كانت تحتل قطاع غزة, وما ترفضه الآن بشدة إزاء أية فكرة متعلقة بالضفة الغربية, وما ستظل ترفضه في المستقبل. لكن بالتأكيد سنسمع تأييداً إسرائيلياً لمطلب استقدام قوات دولية إلى قطاع غزة, ليس لأنه يحدث بعيداً عنها فحسب, بل لأنه يفاقم من الانقسام الفلسطيني الذي جاءها كهبة من حيث لم تحتسب. لكن ماذا لو يتم تعديل المطالبة بقوات دولية, وعلى سبيل الاختبار مثلاً وفقط, وبحيث يُطلب من المجتمع الدولي أن يُرسل قوات دولية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة معاً حتى نسمع الرد والموقف الإسرائيلي بشكل أكثر وضوحاً وبشكل يتيح المقارنة أكثر؟

لا يعني رفض فكرة القوات الدولية في قطاع غزة التقليل من الخطر الذي يحدق بالمستقبل الفلسطيني جراء الانقسام الوطني, الجغرافي, الحمساوي, الفتحاوي الذي لحق بحاضر الفلسطينيين. كما أنه لا يعني تأييد الوضع الراهن الذي تسيطر من خلاله quot;حماسquot; على القطاع وتتحكم فيه جملة وتفصيلاً بعيداً عن أي إجماع أو اتفاق وطني فلسطيني. إذ أن كل يوم يمر وهذا الانقسام موجود معناه مفاقمة الصعوبات وإهالة المزيد من الغموض على ما قد يحدث أو ما يمكن القيام به من قبل كل الأطراف. هذا الانقسام يضرب في قلب القضية الفلسطينية ويسبب فقدان البوصلة الوطنية.

إنه يضع سؤال المشروع الوطني نفسه وأهدافه موضع شك, ويثير إحباطاً عز نظيره في أوساط الشعب الفلسطيني والشعوب المناصرة له. خطر الانقسام الحالي إذن هو في انحراف البوصلة الوطنية من التركيز على الانتهاء من الاحتلال الإسرائيلي إلى التركيز على أهداف وأجندات حزبية وجزئية أو في أحسن الأحوال تخفيض سقف وهدف هذه البوصلة ليصبح quot;توحيد الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيليquot;. ويمثل هذا تقهقراً غير مسبوق على صعيد النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي.

أية فكرة تُطرح الآن لمحاولة quot;معالجةquot; الانقسام الضفاوي الغزاوي, الفتحاوي الحمساوي, لا يكون الحوار بين الطرفين هو محركها الأساسي هي فكرة لا علاقة لها بالواقع، وخيالية. سواء أكانت فكرة القوات الدولية, أو حصار القطاع, أو محاولة استعادة السيطرة عليه عسكرياً, أو تأليب وحشد الأطراف الإقليمية والدولية ضد quot;حماسquot;، أو غيرها من الأفكار كلها تجلب خراباً ودماراً إضافياً. quot;الواقعية السياسيةquot; تفرض منطقاً واحداً هذه الأيام وهو أنه من دون الحوار الفتحاوي- الحمساوي سيتكرس فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية. مهما كان الحوار المنتظر مُراً ومريراً وصعب التحقيق وظروفه غير مهيأة والأحقاد المتبادلة تقف في طريقه, وبعض الأجندات الإقليمية والدولية والإسرائيلية تعارضه, ومهما كان من أمور أخرى تعيقه فإنه البوابة الوحيدة التي يجب على الفلسطينيين أن يدخلوها رغماً عنهم. رفض هذه الفكرة ليس هروباً من أبجديات الواقع السياسي الراهن فحسب, بل فيه تكريس للانقسام.

الضرر الذي تجلبه الأفكار الأخرى quot;غير الحواريةquot; يكمن في إضاعة وقت ثمين في الرد والأخذ والدوران على الفكرة الوحيدة التي يراها أي متعقل للوضع وهي الحوار. هذا كله من دون أن نقول إن منطق سد أبواب الحوار الوطني وإغلاقها وإظهار البطولة المتزايدة في صك أقفالها يبدو عارياً ومتناقضاً مع نفسه عندما تكون تلك الأبواب مشرعة على مصاريعها مع quot;العدو الإسرائيليquot; رغم بطشه الذي لم يتوقف يوماً واحداً, ورغم استمرار احتلاله, واستمرار اعتقاله لألوف الفلسطينيين. وبصراحة لم تعد تخفى على أحد يجوز القول إنه لو امتلك رموز حل quot;أوسلوquot; عُشر الشجاعة وعُشر الخطاب quot;الصلبquot; الذي يتبنونه الآن ضد الحوار مع quot;حماسquot; عندما تعاملوا ولا زالوا يتعاملون مع الصلف الإسرائيلي لكان وضع القضية الفلسطينية وحقوقها أفضل ألف مرة. هذا كله, ومرة أخرى, لا يعني المصادقة لا على مواقف quot;حماسquot; ولا على سيطرتها على القطاع, لكن أي منطق منصف ووطني يقود إلى القناعة بأن الحوار بين الطرفين هو السبيل الوحيد والوحيد فقط لمحاولة الخروج من المأزق.