سليم الحص

لا أملك مثل المواهِب التي يتمتّع بها ميشال الحايك كي أستبق الأحداث والتطورات فأتنبّأ بما قد يتمخّض عن العام المقبل، العام ،2008 مع ذلك فإن من حقّي أن أُدلي بما أتوقّع بناء على السِياق الذي ألفناه في تاريخنا الحديث، وبخاصة خلال السنوات الأخيرة.

على الصعيد الأمني، بعد مسلسل الاغتيالات والتفجيرات الرهيب الذي كان لبنان مسرحاً له، فإنّنا لا نسقط من الحساب وُقوع مزيد من الجرائم، وذلك لثلاثة اعتبارات على الأقل:

فمن جهة، بالقدر الذي كان هذا المسلسل من الفواجع الأمنية يعود إلى اختلال سياسي فادِح، وتالياً إلى تفاقُم الانقسامات الفئوية في البلاد، فإننا لا نرى أننا بلغنا نهاية لهذا المسلسل باستمرار الاختلال السياسي واحتدام الانقسامات الفئوية، المذهبية والطائفية والعشائرية. فالشعب أفرقاء تباعد بينها هوّة سحيقَة من تبايُن المواقف والرُؤى والتطلّعات. وليس في الأفق المنظور مشروع حلّ أو تسوية يضع حدّاً لواقع التردّي على هذا المستوى. ومن جهة ثانية، فإن مسلسل الإجرام لا يلجمه إلاّ كشف الجُناة وملاحقتهم وإنزال أشدّ العقوبات في حقّهم. بغير ذلك ليس ما يردع الجاني عن غيّه. وحتى اليوم لم تضع السلطة يدها على المسؤول عن أيٍّ من الجرائم التي زلزلت بلدنا.

ومن جهة ثالثة، فليس بيننا من لا يُدرك أن ساحتنا السياسية أضحت مرتَعاً لقوى الشرّ في العالم. على حدودنا الجنوبية عدُو غاشم يتربّص بنا شرّاً. وداخل ساحتنا تنشط أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية كافّةً. فليس بيننا من يتّهم أجهزة الاستخبارات عموماً، الشرقية منها كما الغربية، بالتعفف أو الترفّع الحضاري أو الإنساني. فمن الأسرار المكشوفة أن أجهزة الاستخبارات كثيراً ما تكون هي المسؤولة عمّا يقع من فواجِع في شتى أرجاء العالم.

ونرى أن إثارة الفتن الفئوية، الطائفية والمذهبية، ستكون سبيل المتربّصين بوطننا ومجتمعنا، وستكون هناك محاولات كثيرة للإيقاع فعلياً بين الفئات اللبنانية. ولكن كل هذه المحاولات ستكون عبثيّة، سوف تَبوء بالفشل على محكّ وَعي الناس عموماً، وبقيّة من القيادات المُخلصة، أن الفتنة هي طريق الهلاك، هلاك هذا الوطن الفريد في تعددية أهله، وهلاك كل فريق يقع في المكيدَة. لن تفلت الفتن من عقالها بإذن الله. الكُل يُدرِك أن الواقع السائد في المجتمع يحبل بالعصبيات والتشنّجات المذهبية والطائفية، والحال أقرب ما تكون إلى حرب أهلية حَبيسَة النفوس، ولكنها ستبقى حَبيسَة النفوس ولن تخرج إلى الشارع. وستكون للحرب الحَبيسّة نهاية مع تطوّر النظام، بتصميم من المؤمنين بلبنان وطناً لجيمع أبنائه، على قواعد الحرية والعدالة والمساواة وسائر حقوق الإنسان الكريم في وطنه، ولسوف تحتلّ رابطة المواطنَة الجامِعة محلّ العصبيات الفئوية التي تتحكّم في النفوس، وتُمزّق المجتمع الواعِد. بالطبع هذا الحلم لن يتحقّق كلياً خلال عام، ولكننا لا نستبعد أن نشهد إرهاصاته قريباً بإذن الله.

وسط الظلمة، ظلمة الانقسامات والتشنّجات التي تُخيّم على الساحة الداخلية، لم يَغِب نجم الوَعي بين كثرة من المواطنين أنّ وطنهم وُجد ليبقى، لينهض، ليزدهر، لا بل ليكون رائداً في الوطن العربي. إنّنا، كما كثرة من شعبنا، نُدرك أن الردّ على مشاريع التفتيت التي يُروّج لها في عالمنا العربي، وفي لبنان بالذات، لا يكون إلاّ بمشروع توحيدي. قدر العرب أن ينتظِموا في إطار اتّحاد عربي، على غرار الاتّحاد الأوروبي، ونحن أولى بالاتّحاد من الأوروبيين بفِعل لُغة واحدة تجمعنا، وثقافة مشتركة، وتُراث جامِع، ومصالح متبادلة وشعور راسِخ بالمصير الواحد. وقدر اللبناني أن يكون رائداً في مسيرة التوحيد العربي، وهو يحلم بأن تكون بيروت ldquo;بروكسلrdquo; العرب يوم يتحقّق الاتّحاد العربي. هذا مشروع لا بُدّ أن يتبلور في المدى الأبعد، ولكن الرسالة، على هذا المستوى، يمكن أن تولد وتنمو خلال عام ستكون سمته رفض اللبنانيين وسائر العرب الواقع الرَديء الذي يطبع بداية هذا العام بتزامن التوتّر في بُؤر متعدّدة: في لبنان وفلسطين والعراق والسودان والصومال، فيما تتعرّض بلدان في المنطقة، بما فيها سوريا وإيران وباكستان، لتهديدات وتحدّيات جسيمَة.

اما المأزق الرئاسي الذي يشدّ على خِناق اللبنانيين في بداية العام، فمن الطبيعي ألا يعمّر طويلاً بانتخاب رئيس توافقي للجمهورية، لا سيما وقد انصبّ التوافق الوطني على قائد الجيش العماد ميشال سليمان الذي يحظى باحترام الجميع من جراء أدائه الوطني المتميّز. وإذا كان المأزق يبدو مستعصِياً في اللحظة الراهنة، فاستعصاؤه سوف يتبدّد عندما يُدرك الجميع أن الخلافات

الناشِبة لا ترتكِز إلى قضيّة حقيقية وإنما إلى انفِعالات واصطِفافات تغلب عليها اعتبارات عابِرة لا عُمق لها بالمعنى الوطني.

لقد استطاع لبنان أن يُواجِه ألواناً من الشِدّة المتناهية سياسياً وأمنياً وبالتالي اجتماعياً واقتصادياً، فتراجعت حركة الإنتاج وحلّ ركود اقتصادي عام واستشرت حالة البطالة في صفوف اليد العاملة وتصاعدت حركة الهجرة بين الشباب إلى الخارج وازدادت هُوّة التمايز في مستوى المعيشة بين الثَري والفقير، ولكن مع كل ذلك صمدت العملة الوطنية، مع أنّها عملياً تراجعت دولياً مع الدولار الأمريكي، وأظهر القطاع المصرفي والمالي، وهو قطاع حيَوي في الاقتصاد الوطني، مِنعة ملحوظَة. وقد ساعد لبنان على هذا الصعيد حصول فورة نفطيّة في الجِوار العربي، بارتفاع أسعار النفط إلى مستويات غير مسبوقَة، هبط على بلدنا شيء من رذاذها. ولو لم تكن الأزمة السياسية لغمرتنا بآلائها كما غمرت الأردن وسوريا وربما أكثر.

وأهم ما يمكن ويجب أن يتمخّض عنه العام الجديد عودة الحياة إلى الوحدة الوطنية، وذلك بإقلاع مختلف الأطراف عن ولاءاتهم الخارجية والاعتصام مجدّداً بالولاء للبنان الوطن والمجتمع والدولة. وهذا ليس بالكثير على شعب عرف بحيويّته ووعيه وكرامته وتمسّكه بوطن آمن لأجيال ناشئة ومقبلة من أبنائه الميامين.

نحن لا نزعم أنّنا من ذَوي القدرة على التكهّن أو التنبّؤ بما يحمله زمن مقبل، ولكننا نسأل الله أن يلهمنا العزم على تحقيق ما يبدو أنه من المرتجى والمنشود في مستهلّ العام ،2008 وفي وقت يشعر اللبناني أنّه على مُفترق، يواجه المجهول، ومصيره الوطني على المحكّ.