يوسف القعيد

كان الثامن والعشرون من سبتمبر سنة 1970 يوافق يوم اثنين. منذ استشهاده جرت العادة أن نذهب إلي ضريحه يوم الثامن والعشرين من سبتمبر.

وأن نذهب إلي بيته في الخامس عشر من يناير. يوم ميلاده. ولكن البيت - بعد رحيل رفيقة عمره. جري تسليمه للدولة من أجل تحويله إلي متحف. وهو القرار الذي صدر مؤخراً لثالث مرة. بعد تدخل ورجاء من العقيد الليبي معمر القذافي.

لم يبق سوي ضريح الرجل الذي أعاد بناء كل شبر في مصر. وأعاد الاعتبار للشخصية المصرية والعربية. وترك الوطن في حالة لا يمكن مقارنتها بصورته عندما آلت إليه أموره. مفاجأة كل عام. شيخ في الثمانين من عمره يخط. يتكلم بين يدي عبدالناصر. يحكي له ما جري في بر مصر. وما حدث بعد رحيله. يرد علي الحملات الموجهة ضد عبد الناصر. وما أكثرها في هذه الأيام. يختلط الحال الراهن بالحلم والأمنية. وتتداخل مواجع الأمور مع أفراحها وما أقل الفرح الإنساني في أيامنا.

يحدث عبد الناصر عن كل ما طرأ من بعده. هل أتاك حديث الإرهاب والتطرف؟! هل سمعت ما يقال عن أنك حاربت الإسلام في زمنك؟ يسأل الشيخ الذي لم أعرف حتي اسمه: هل ينسون أو يتناسون أنك أنت الذي أسست إذاعة القرآن الكريم؟ وبدونك لم يكن ممكناً لهذه الإذاعة أن تخرج إلي الوجود؟

في القاعة الكبري الملحقة بضريح عبد الناصر. صورة لعبد الناصر. أشعر كلما ذهبت إلي القاعة أن عيني عبد الناصر تدوران معي أينما تحركت. ربما كان هذا من عبقرية الرسام الذي رسم الصورة. وربما كان إحساساً من عندي. لكن نظرته الحانية ترافقني حيث تحركت.

في صدر الصالة الواسعة الدكتورة هدي جمال عبد الناصر. التي لابد وأن يجدها الإنسان في هذا المكان. كأنها جزء منه. بجوارها الأستاذ محمد حسنين هيكل. والوجوه كثيرة. وآيات القرآن تتلي. وصوت الخطيب ابن الثمانين يرعد في المكان. أكثر ما لمس شغاف القلب عبارة قالها الشيخ. قال إنه ينتظر هذه اللحظة منذ الفجر. ينتظر اللحظة التي تمكنه الحضور فيها إلي هنا من أجل المشاركة في هذه المناسبة.

تتميز الأعوام الأخيرة في الضريح. بحضور عدد كبير من الشباب. من المؤكد أنهم لم يعاصروا عبد الناصر ولا زمنه. ولم يره أي منهم بأم عينيه. ولكنهم يتتبعون الأثر الذي تركه الرجل. في كل ما يتم تصفيته في مصر الآن. مجانية التعليم. والقطاع العام. وتحديد الملكية الزراعية. وإيجارات العقارات. الشقق السكنية. والعزة الوطنية. والكبرياء الوطني. الدعم. القطاع العام. هل يعقل أن بيع ما بناه عبد الناصر يبدو مسألة صعبة؟ إن هذا يعني أن الرجل بني أكثر مما ينبغي. وأن من يبيعون يجدون أن عملية البيع شديدة الصعوبة.

كل ما يجري في مصر. سواء بالسلب أو الإيجاب. يقول انه مر من هنا عبد الناصر. وكان هنا عبد الناصر. وفي هذه البلاد منذ أكثر من 38 سنة مضت. كانت في هذه المنطقة من العالم زعامة من النوع الذي لا يتكرر في عمر الشعوب إلا كل قرن من الزمان، أو نصف قرن.

يقف الحاضرون طابوراً أمام دفتر تسجيل كلمات الحاضرين. ومثل هذا الدفتر سجل من أهم سجلات الوطن. التي تعد من مستندات الوطنية المصرية. والتي لابد من دراستها ذات يوم بكل عناية ممكنة.

سواء في طريق الذهاب إلي الضريح أو العودة منه. كل ما حول الإنسان يؤكد حجم التغيير الذي حملته 38 سنة من عمر مصر. جاءت بعد رحيله. كان حجم التغييرات مهولاً ومخيفاً. ومن الطبيعي أن الحياة لا يمكن أن تتوقف. وأن التغيير من سنة الحياة. ولكن هناك فارقاً ضخماً بين التغيير والهدم. وبين التطور الطبيعي والتدمير.

لو فتحت ملف كل ما جري. عملية فك مصر وإعادة تركيبها وهي التي تتم وتجري منذ سنة 1970 وحتي الآن وستظل مستمرة. لاحتجت إلي مجلدات لا عدد لها. حتي أدون وأكتب وأسطر ما جري في بر مصر. وهي قصة أكثر من محزنة. وأكبر من مبكية. والهم الذي تثيره علي القلب والضمير. والوجدان يكفي لكي يغرق الدنيا فيه بأسرها.

لكن رحلتي كل عام. في الثامن والعشرين من سبتمبر. والخامس عشر من يناير. يحصل الإنسان فيهما علي جرعة من الأمل والرجاء. إن الحياة عندما تخلو من الأمل تصبح نوعاً من الجحيم. بل تصبح الجحيم نفسه.

في القاهرة. يصحو الحزن قبل الناس. وتمشي الهموم في الشوارع قبل أن تدب أقدام المصريين. ويسأل الرغيف السياحي الذي ثمنه نصف جنيه من نصيب من سيكون. والشمس تصب غضبها الحامي علي خلق الله. والغضب والتوتر يملأ المسافات والمساحات بين الإنسان والإنسان. والهواء معفر بالهوان. والبيوت تنادي الأمن.. الأمان.

وفي ضريح عبد الناصر. ذلك الصمت. مثل سكون الهرم. وأبي الهول. كل هذا الهدوء الأبدي. كل هذا الصفاء. كل هذا الصمت. أخرج من الضريح وأنا أقول لنفسي أن مصر هي التي اخترعت الأبدية. كان كل ما قام به عبد الناصر مرافعة ضد الفناء. جاء هذا الرجل ليخلد. ليبقي. ليظل. حتي لمجرد أن نبكي بين يديه في الثامن والعشرين من سبتمبر. وفي الخامس عشر من يناير. من كل عام..

وهل هذا قليل؟!