محمود الريماوي

حملة الإبادة التي يتعرض لها أبناء غزة ليست وليدة ظروف مستحدثة، ولا هي قريبة العهد بأي صورة من الصور،أو ذات علاقة بتسمية المحتلين قطاع غزة ldquo;كياناً معادياًrdquo;. فمنذ احتلال القطاع في العام 1967 ظل يتعرض لموجات مكثفة من الهجمات والتعديات، وذلك استباقا ورداً على نشاطات مبكرة ومتواصلة للمقاومة اليسارية. وتعود بعض جذور تلك المقاومة لفترة احتلال القطاع إبان العدوان الثلاثي على مصر في العام ،1955حيث كان القطاع آنذاك تحت الإدارة المصرية.وقد نشطت مقاومة شعبية كانت تحوز على أسلحة وفرتها لها هذه الإدارة. تم الجلاء عن القطاع في العام التالي وعودته للإدارة المصرية بعد إنذار ايزنهاور الشهير.وهو ما يفسر النقمة قديمة العهد على هذه المنطقة وأهلها.

يشن المحتلون حربا بغير انقطاع على القطاع، الذي يتبدى لهم بحكم موقعه الجغرافي المتاخم للحدود على مصر وصلاته التاريخية مع هذا البلد العربي الكبير، وكما لو أنه يجمع بين الهوية الفلسطينية والعمق المصري.أي أنهم بتجريد تلك الحرب، فإنهم يستهدفون فلسطين ومصر معاً.

على أنه يستوجب الملاحظة أن تسعير ومضاعفة حملة الإبادة، قد ترافقت مع صعود شارون إلى الحكم قبل سبع سنوات من الآن. لقد سبق أن عمل هذا الشخص في القيادة العسكرية للاحتلال في القطاع مطلع سبعينات القرن الماضي، وقد عجز آنذاك عن كسر شوكة المقاومة التي كانت تضم ناشطين من الجبهة الشعبية والحزب الشيوعي الفلسطيني ومن نواة لحركة فتح.

إبان صعوده اللاحق على رأس حكومة الاحتلال، فقد أرسى شارون استراتيجية سياسية وعقيدة عسكرية، تقوم على تقويض ركائز المجتمع الفلسطيني وتدمير مقومات حياته وتصفية مؤسسات السلطة الناشئة وبالذات المطار والمرفأ، الانتقام من القطاع وأهله : رداً على العمليات التفجيرية التي شنتها حماس ومنظمات أخرى في ldquo;العمق الإسرائيليrdquo; وتصفية الحساب مع إرث المقاومة الذي يعود لعقود سابقة. وكذلك تصفية نتائج اتفاق أوسلو.

تخلي شارون عن القطاع و قيامه بتفكيك مستوطنتين فيه، يرجع كما قال شارون لقناعته بأنه لن تكون هناك أغلبية يهودية في القطاع ذات يوم.علاوة على دوافع أخرى منها إشاعة انطباع بأن الدولة العبرية تتخلى عما هو ليس جزءاً من ldquo;أرض اسرائيلrdquo; من أجل الإطباق على ما يسمونه يهودا والسامرة (الضفة الغربية).

لم يأت حزب كاديما الحاكم بجديد،حين اعتبر القطاع كياناً معادياً.فالوجود الفلسطيني برمته في مرآة العقيدة الصهيونية العنصرية يمثل كياناً معادياً.وحرب الإبادة التي أطلقها شارون وواصلها أولمرت شملت الضفة الغربية.غير أن الانسحاب من غزة قبل ثلاث سنوات، وفر غطاء دعائيا لفرض طوق من الحصار البحري والجوي والبري، بغية صوملة القطاع بقطع موارد الحياة عنه وفصله نهائيا عن الضفة الغربية واستدراج مصر لإدارته. سيطرة حماس على القطاع منذ حزيران يوليو الماضي جرى استغلالها ذريعة دعائية،فالموقف من هذا الكيان الجغرافي والسياسي لم يتغير نوعياً، وإن اشتدت حدته وازدادت صفاقته.

وليس بعيداً عن الاعتبارات السياسية وبالاقتراب أكثر من المعايير الإنسانية،فإن حملة الإبادة التي يتعرض لها القطاع إذ لا تكشف جديداً في الأداء الصهيوني الوحشي التقليدي، لكنها تكشف عن قصور فلسطيني وعربي وإسلامي، في التعامل مع هذه الظاهرة القديمة المتجددة.

فالقتلة ابتداء من المستوى السياسي ممثلا بحكومة أولمرت، لا يجدون ما يستحقونه من إدانة قاطعة، فيتم التلهي باعتبارات سياسية مزعومة كمواصلة التفاوض أو ldquo;واقع السلامrdquo; القائم، لإعفاء القتلة مما يستحقونه وعلى الأقل بتصنيفهم وتسميتهم، بما هم عليه لا أكثر ولا أقل. ومما يسترعي الانتباه والسخط معاً أن الأطراف الفلسطينية والعربية تبدو قد اعتراها الملل من تكرار الإدانات بحق القتلة، فيما الطرف الآخر لا يعتريه أي ضجر، من المواظبة على ارتكاب جرائمه وتكرارها يوماً تلو يوم وبغير انقطاع.

وإذا كان هذا القصور ليس جديدا، فإنه يسترعي الملاحظة أن ما لا يحصى من هيئات حقوق انسان ومنظمات مجتمع مدني فلسطينية وعربية، لا تتنادى ما بينها لتنظيم حملة منهجية ضد عملية الإبادة، واستثمار ما يفترض وجوده من علاقات وروابط واسعة مع هيئات مماثلة في العالم، من أجل الضغط لوقف هذه الجرائم الدموية، والكف عن اعتبارها نشاطاً روتينياً للاحتلال، لا يستحق من فرط تكراره، وضعه في دائرة الضوء والاهتمام الإعلامي.ويتساءل المرء عن جدوى وجود هذه المنظمات،ما دامت تعجز عن أداء مثل هذا الواجب بصورة جماعية ومنسقة، فيما يقوم جوهر وجودها على الانتصار لحقوق الإنسان. فهل يتعين انتظار أن تتحرك منظمة العفو الدولية وحدها أو منظمة ldquo;هيومن رايتس ووتشrdquo;، وهما من الهيئات التي يشكك البعض منا في أنشطة لهما، لكن المتحفظين يعولون في الوقت نفسه على دور تنهض به مثل هذه الهيئات الدولية، لتغطية تقصير أصحاب الشأن والعلاقة.

إنه لمن المروع حقا أن تتطور الأمور، لدرجة يبدو معها ارتكاب هذه الفظائع ولكأنه بات ldquo;حقاً مكتسباًrdquo; للاحتلال،لا يستحق إطالة الوقوف عنده. علينا تفحص مسؤوليتنا فلسطينيين وعرباً إزاء ذلك، وفي زمن يثير فيه قتل حيوانات سخطاً عالمياً، بينما قتل بشر لم يعد يستحق اعتباره خبراً.