سليم نصّار
أذكر أنني قرأت خلال الحرب اللبنانية الأخيرة، تفسيراً طريفاً حول الأسباب الخفية التي جعلت الأكثرية الصامتة تسكت عن تدمير البلاد بواسطة الميليشيات طوال خمس عشرة سنة.
وقد نشر أحد المراسلين في آخر الثمانينات - وأظنه تشارلز غلاس - وقائع عدة اعتبرها عناصر مؤججة لنار الحرب. واختار من تلك الوقائع تحليلاً علمياً يبين تأثير طبيعة التكيف على ترويض الأذهان والأجسام بحيث تصبح مهيأة لامتصاص كل تغيير خارجي.
قال المراسل إنه سأل أستاذ علوم الفيزياء في إحدى جامعات بيروت عن التفسير العلمي الذي يعطيه لظاهرة إذعان المجتمع اللبناني الحيادي لأوامر الميليشيات وسيطرتها على مؤسسات الدولة.
وقبل أن يجيب الأستاذ على سؤاله، أدخله الى المختبر حيث يقوم ببعض التجارب أمام الطلاب. ثم أطلعه على عملية اختبارية كان يجريها على الضفادع داخل laquo;مراطبينraquo; زجاجية تتغير فيها حرارة المياه بواسطة أنابيب خارجية.
وبعد أن أشار المعلم الى ضفدع ميّت داخل المرطبان، قال إنه أمضى نحواً من ثلاثة أشهر للوصول الى استنتاج مفاده أن عامل التكيف جرد وسيلة الاختبار من الاحساس بالخطر. والسبب أنه رفع درجة حرارة المياه داخل المرطبان بطريقة بطيئة تدريجية كانت كافية لإحراز نسبة التكيف المطلوبة. ولما وصلت حرارة المياه الى درجة الغليان، لم يقفز الضفدع كما هو مفروض، وانما استسلم لعامل التكيف البطيء الذي سلبه قوة المقاومة والاستجابة لرد فعل صدمة التغيير القاتل.
ثم انتقل الأستاذ مع ضيفه الشاهد لاختبار آخر أجري على ضفدع كان يقبع حياً في أسفل المرطبان، ولما رفع حرارة المياه بصورة مفاجئة، راح الضفدع يقاوم بشدة الى أن تمكن من القفز والهرب عبر فتحة المرطبان.
قال المراسل في حينه أن أستاذ الفيزياء اتخذ من اختباره العملي قرينة لإقناعه بأن الشعب اللبناني تعرض طوال 15 سنة لعملية تكيف بطيئة وطويلة شلت إرادة أكثريته الصامتة. وقارن بين التجربة الرمزية في المختبر وبين التجربة السياسية التي تروض عقول اللبنانيين منذ سنة 2005 بحيث يعتادون على تقبل الموت والاغتيال من دون أي احتجاج أو رفض، تماماً كضفادع المختبرات.
التظاهرة الشعبية الضخمة التي شهدتها laquo;ساحة الشهداءraquo; منتصف الشهر الماضي، كانت بمثابة انتفاضة جماعية لمحاولة الخروج من فتحة laquo;المرطبانraquo; اللبناني بعد مرور ثلاث سنوات على بداية مسلسل القتل، أي المسلسل الذي بدأ في 14 شباط (فبراير) 2005 باغتيال الرئيس رفيق الحريري وباسل فليحان، واستمر في عمليات التصفية بقتل سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وبيار الجميل ووليد عيدو وانطوان غانم وفرانسوا الحاج ووسام عيد. اضافة الى محاولات أخرى نجا منها الوزيران مروان حمادة والياس المر والإعلامية مي شدياق والمقدم سمير شحادة. ونتج عن حدوث 14 عملية تفجير أن قتل خمسون شخصاً بينهم 22 سقطوا أثناء اغتيال الحريري.
بسبب التهديدات المتواصلة التي تلقاها عدد من زعماء 14 آذار، قرر هؤلاء القيام بانتفاضة شعبية للتدليل على استنكارهم واعتراضهم على وسائل القمع والترهيب.
كذلك أرادوا اعطاء محازبيهم وأنصارهم والمحايدين فرصة التعبير عن رفضهم لعمليات الموت البطيء. ومن رحم هذه المقاومة السلمية ولدت أضخم تظاهرة شعبية في لبنان كاد عدد مؤيديها يصل الى المليون نسمة لولا انسداد طرقات الجبل بالثلوج والأمطار. ويستدل من مراجعة laquo;اللاءاتraquo; التي حملتها اليافطات، ان الاعتراض لم يكن محصوراً بأسلوب الاغتيالات فقط، وانما تعداه ليصل الى الحاجات الاقتصادية والمعيشية. وقد استخدم بعض خطباء تظاهرة laquo;ساحة الشهداءraquo; هذا الوضع المأسوي لاتهام المعارضة بتجويع المواطنين، وباستعمال القوة المسلحة لإفقار من لا يجاريها في قبول هيمنة سورية وايران على مستقبل البلاد ومصير العباد.
بعد انتهاء تظاهرتي الاستقطاب اللتين دعت اليهما جماعة 14 آذار وجماعة 8 آذار، عاد الى بيروت أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى ليكتشف ان المواقف المبدئية لدى الفريقين لم تتغير. وقد بلغ من شدة الحساسية لهذين التاريخين، ان اتفق رئيس المجلس نبيه بري مع موسى على تخطيهما واختيار 11 آذار موعداً اخيراً لمحاولة الاتفاق على انتخاب رئيس. أي قبل 17 يوماً من موعد افتتاح القمة العربية في دمشق يوم السبت الموافق 29 الجاري. وربما تحاشى بري انتقاء 15 آذار بسبب ارتباط هذا التاريخ بالشؤم الذي حمله اغتيال يوليوس قيصر، خصوصاً انه يتخوف من تنامي عدد laquo;البروتوسيينraquo; الذين يشحذون خناجرهم استعداداً للقيام بعملية اغتيال كبرى يمكن ان تنسف كل ما حققه موسى!
الملفت في هذا السياق، ان عمرو موسى يحرص على تحقيق النجاح لمهمته في لبنان قبل يوم 22 آذار لأسباب تتعلق باختيار هذا التاريخ عيداً سنوياً للجامعة العربية التي تم التوقيع على ميثاقها في 22 آذار 1945. وهو يرى ان احدى أهم توصيات ميثاق الجامعة، تدعو الى ضرورة توثيق صلات التعاون بين الدول الأعضاء. كما اشتمل البروتوكول ايضاً على قرار خاص بأهمية laquo;احترام استقلال لبنان وسيادتهraquo;.
جواب دمشق الآتي عبر نائب الرئيس فاروق الشرع أو وزير الخارجية وليد المعلم، لا ينكر هذا الاحترام، وانما يعطي المعارضة شرعية تمثيل لبنان بعد إغفال دور فؤاد السنيورة الذي أناط الدستور بحكومته صلاحيات رئيس الجمهورية. وبسبب عدم الاتفاق على خطوط التوافق، فإن فراغ الرئاسة سيفرض على سورية توجيه الدعوة الى نبيه بري لعله يختار هو الشخص الذي يمثل لبنان في المؤتمر: وزير الخارجية المستقيل فوزي صلوخ أم الوزير بالوكالة طارق متري!
الحكومة السورية لا ترى في تسهيل عملية انتخاب رئيس جمهورية لبنان، شرطاً لإنهاء خلافها مع السعودية أو مصر حول بعض المسائل العالقة. وهي تستعين بسوابق عدة لتبرير وجهة نظرها كالقول إن المؤتمرات التي عقدت في القاهرة وتونس وبغداد والدار البيضاء وعمان ضمت حكاماً متخاصمين مثل صدام حسين وحافظ الأسد أو مثل عاهل المغرب ورؤساء الجزائر. ويقول الوزير وليد المعلم إن الرئيس بشار الأسد حضر القمة الأخيرة في الرياض وعاد منها من دون أن يحقق الشرط الذي يطالبه به الرئيس حسني مبارك. أما بالنسبة إلى موضوع التسلم والتسليم، فإن دمشق تستشهد بقمة تونس سنة 2004 لتشير إلى أن الرئيس زين العابدين بن علي أعلن نفسه رئيساً للقمة من دون أن يتسلم مسؤولية الدورة من سلفه البحريني، وعليه تتوقع الحكومة السورية أن يجري افتتاح القمة في موعدها داخل قصر المؤتمرات الذي بنته شركة الحريري مع فندق تابع له في منطقة laquo;ايبلا الشامraquo; على طريق المطار. وقد أعرب الرئيس حافظ الأسد في حينه عن شكره وامتنانه للهدية التي قدمها لسورية رفيق الحريري، والتي زادت نفقاتها على ثلاثمئة مليون دولار. كذلك ساهمت حكومة قطر أخيراً في بناء فيلات فخمة على طريق المطار بحيث أصبحت جاهزة لاستقبال الضيوف.
مع التحضير لأول قمة عربية تعقد في دمشق بعد مرور ستين سنة تقريباً، يرتفع السؤال حول الأسباب التي أرجأت موعد انعقادها الى هذا الوقت!
تقول جهات سورية مطلعة إن ميثاق الجامعة اشترط أن تكون القاهرة مقراً رسمياً، الأمر الذي انتج بعض الاشكالات بالنسبة إلى الأمناء العامين. ولولا laquo;كامب ديفيدraquo; وخلاف الحكام العرب مع الرئيس أنور السادات، لما رأى الشاذلي القليبي الأمانة العامة التي ورثها عن مصريين هما عبدالرحمن عزام (1945 - 1952) ومحمود رياض (1971 - 1979) ثم سلمها لمصريين هما عصمت عبدالمجيد (1991 - 2001) وعمرو موسى. ومن الدورات العادية والطارئة استضافت مصر عشر دورات من أصل 33. ويستفاد من مراجعة وقائع القمم السابقة أن مصر ظلت مؤثرة على دور الجامعة قبل عهد الرئيس عبدالناصر وبعده. بل ان خلافاتها مع دمشق ظلت قائمة قبل الوحدة وبعد الانفصال، وذلك لأسباب تتعلق بالدور القومي المركزي الذي تسعى إليه الدولتان في العالم العربي. ويقول المسؤولون السوريون إنه لولا الترتيب الأبجدي الذي ينقل القمة دورياً كل سنة الى عاصمة عربية، لما قبلت دمشق أن تستضيف القمة هذه السنة.
بقي السؤال الأهم: هل ينجح عمرو موسى خلال زيارته الأخيرة يوم 11 الجاري، في إقناع الأكثرية والمعارضة بضرورة انتخاب رئيس جمهورية؟
الجواب يتعلق بقرار سورية وما إذا كان فعلاً تهمها مصالحة السعودية ومصر والبحرين والأردن. ذلك ان مقاطعة دول مركزية اعتمدها الرئيس حافظ الأسد أثناء بناء التوازنات الاقليمية من خلال تحالفه الاستراتيجي مع مصر والسعودية، يمكن أن تحدث خللاً في توازنات المنطقة كلها. وربما يراهن النظام السوري على حدوث هذا التغيير من خلال تغيير سياسة أميركا تجاهه وتجاه ايران في حال فاز باراك أوباما برئاسة الجمهورية. ومن المؤكد أن تصاريح أوباما قد أغرت قيادة دمشق بضرورة الانتظار مدة عشرة أشهر اضافية، قبل أن تسمح الظروف الدولية بعقد مؤتمر سلام تشترك فيه سورية وايران والعراق ولبنان الجديد، أي لبنان الذي يطل رئيسه من بذلة اميل لحود!
التعليقات