علي الغفلي
نرى بعض مظاهر الاهتمام بالهوية الوطنية في الدولة خلال الفترة الراهنة، ونود الاعتقاد أن هذا الاهتمام ينطلق من القلق العام بشأن المخاطر التي صارت تتهدد هويتنا الوطنية بكل قوة، وذلك بوصف الهوية الوطنية الركيزة الجوهرية في تشكيل كياننا السياسي، في الماضي والحاضر والمستقبل. يوجد أكثر من سبب حقيقي لكي تتملك المواطنين المخاوف تجاه واقع ومآل أهمية عناصر اللغة والقيم والعادات في الهوية الوطنية، وعندما يتجاوز عدد سكان الدولة الخمسة ملايين نسمة بينما لا يبلغ عدد أفراد الشعب من المواطنين التسعمائة ألف، فإن نسبة الشعب من السكان التي تقل عن العشرين في المائة لا تبعث على الطمأنينة على الاطلاق. أكثر من ذلك، فإن السرعة المهولة التي تحدث بها الزيادة السكانية، وعدم اتضاح نهاية واثقة لتدفق الأعداد المقلقة من البشر من مختلف الجنسيات الاجنبية الى الدولة، في مقابل تباطؤ معدلات ازدياد عدد أفراد الشعب، كل هذه الحقائق تجعل الرصيد الشعبي الوطني يبدو ماضياً في سباق خاسر لا تحمد عقباه مع الحجم السكاني المتمدد.
تواجه الهوية الوطنية خطراً حقيقياً، وبشكل لا ينبغي أن تتعرض له تحت أي ظرف من الظروف. لا شيء يبرر السماح باستمرار المواطنين اقلية متضائلة من الناحية العددية في الدولة، ولا ينبغي ان تستمر نسبة الشعب من المجموع الكلي للسكان في التدهور الى ما لا نهاية. يجب أن يتم اتخاذ المبادرات والمشروعات الوطنية التي تصنع الثقة بأنه قد تم الشروع في ايقاف رحلة انحدار نسبة المواطنين من مجموع السكان الكلي، وتقنعنا أنه قد بدأت تتبدى في الأفق تباشير الرحلة المعاكسة نحو تعزيز نسبة المواطنين كي تصل الى الثلث من السكان، ومن ثم الى النصف، ولتنطلق فيما بعد الى مشارف الأمان في نطاقات السبعين في المائة. إن الخبرة المستمدة من واقع وتجارب معظم الدول الأخرى تقود الى التأكيد على أنه لا يجوز أن تتهيأ المعطيات السياسية أو القانونية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، وبأي شكل من الأشكال، وتحت أية ذريعة من الذرائع، لصنع المجال أمام أية جنسية أجنبية لكي تتجاوز عنصر الشعب المواطن من حيث التعداد، ناهيك بالطبع عن السماح بأن يصبح مجموع أعداد الجاليات الأجنبية كافة يفوق عدد المواطنين بنحو خمسة أضعاف.
إذا كانت أعداد الشعب من المواطنين تزداد بمتوالية حسابية، فإن أعداد السكان المتدفقين الى الدولة تزداد بمتوالية هندسية مرعبة، ومعها يزداد شعور المواطنين بالاغتراب في دولتهم. تنتشر بشكل كبير تساؤلات الاستنكار المتداولة بين جموع المواطنين حول تناقص شعورهم بالخصوصية التي يجب أن يمنحهم إياها انتماؤهم الوطني للدولة. صار الكثير من أبناء وبنات الدولة يعبرون عن انطباعات الخوف التي تتولد لديهم اثناء خروجهم من الأماكن والمرافق العامة في مختلف مدن الدولة، والتي تتضمن شعورهم بأن البشر الآخرين من مختلف اصقاع الأرض ينظرون إليهم على أنهم مثار التعجب والاستغراب وربما التأمل. إضافة الى ذلك، يذكر العديد من المواطنين أنهم يصدمون بشكل مريع حين يعمد الأجانب الى تذكيرهم، بسبب أو من دون سبب، بأنهم يعيشون في دولة متعددة الأعراق والجنسيات، وبأنه لا يحق للمواطنين بالتالي أن يتوقعوا من الأجانب احترام خصوصية المجتمع المحلي أو مظاهر هويته الوطنية. من المؤسف أن يتسبب الخلل الفادح في التركيبة السكانية في صنع هذه القناعة لدى المتواجدين على أرض الدولة، ولا ينبغي أن يقتصر الأمر ازاء هذا الأمر على الشعور بالأسف، بل يجب أن يتخطاه الى التفكير في السياسات والممارسات المتبعة والتي أسهمت في صنع هذه القناعة المشؤومة لدى الأجانب في الدولة، والعمل من ثم على التأكيد بكل الوسائل العملية والتطبيقية على وحدة الهوية الوطنية ومحوريتها.
عندما تتدهور الهوية الوطنية في الدولة في ضوء انخفاض نسبة المواطنين مقارنة بالمجموع الكلي للسكان فإنه ليس من المتوقع أن ينتج عن ذلك فراغ هوية، وهي وضعية بائسة في حد ذاتها، بل المتوقع أن تسارع هوية غريبة أو أكثر الى التشكل، ومن ثم الظهور لتفرض نفسها كهوية مرادفة للهوية الوطنية، أو تحل مكانها إذا تمادت الهوية الوطنية في التساهل بمنزلتها وأولويتها في بناء الدولة. يقدم الواقع الموجود في العديد من الدول أمثلة يجب العمل على تفاديها من حالات عدم الاستقرار السياسي والأمني بسبب التعقيدات الوطنية التي تثيرها الانتماءات العرقية المتعددة في المجتمع، والتي يعجز فيها أبناء ومؤسسات الدولة عن مواكبة الهويات الوطنية المتعددة، كما هو الحال في دول مثل العراق ولبنان، وغيرهما. ومن جانب آخر، يقدم الواقع أمثلة لدول تدهورت فيها نسبة المواطنين الى حد خطير في ظل تنامي أعداد الجاليات الأجنبية، ولاتزال هذه الدول تنعم بالاستقرار والثراء، ولكن قد تعين عليها أن تدفع ثمناً باهظاً يتمثل في أن تتخلى عن صفتها كدولة وطنية أو قومية وتتحول الى مجرد دولة مدينة، كحالة سنغافورة حالياً، الأمر الذي يشكل ارتداداً الى وضعية تشبه ldquo;دولة المدينةrdquo; التي كانت سائدة في اثينا الاغريقية قبل أكثر من ألفي عام.
يمكن أن يخاطر المجتمع باستيعاب هويات وطنية متعددة، تقوم كل واحدة منها على جالية أجنبية ذات تعداد سكاني أضخم من تعداد الشعب، ولكن تبقى هذه مجرد مخاطرة، إذ ينبغي على هذا المجتمع أن يتوقع أن الأجيال الثانية والثالثة من الجاليات الأجنبية سوف تمعن في تأكيد استقلال وجودها، وقد تنازع الهوية الوطنية مرتبة الأولوية في الدولة، ومن المحتمل أن تتصارع معها بعد أن تتغلغل في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية من حياة الدولة. إن السعي الى تحقيق الثراء الاقتصادي يعتبر هدفاً محموداً، ولكن الثراء الاقتصادي سيظل مجرد نمو اقتصادي وليس تنمية إذا كان يتسبب في صنع الكثير من جوانب الغموض الوطني في الحاضر وعدم اليقين السياسي في المستقبل، وهذه تماماً هي النتائج الخطيرة التي يشي بها الخلل المستشري في التركيبة السكانية، والذي يقوض الهوية الوطنية بشكل تدريجي ولكن سريع. بعبارة أخرى، يتعين علينا أن نخرج بشكل سريع جداً من الفخ الكلاسيكي المقلق، والمتمثل في السعي نحو تحقيق النمو الاقتصادي في الحاضر من خلال نشاطات تجارية واستثمارية تسهم بدورها في تعميق الخلل في التركيبة السكانية، وتهدد بالتالي بالتضحية بالاستقرار الوطني في المستقبل.
يجب المبادرة الى وضع أولوية معالجة الخلل في التركيبة السكانية في الدولة في قمة الاعتبارات الوطنية، ويجب علينا أن نبدأ في تصميم طوق النجاة لإنقاذ هويتنا الوطنية بأسرع وقت ممكن، ويجب أن نشرع في استخدام هذا الطوق لإنقاذ المقومات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية لكياننا الوطني، وذلك تلبية للاستحقاقات الوطنية تجاه الجيل الحالي، والأهم من ذلك تجاه الأجيال القادمة.
- آخر تحديث :
التعليقات