راغدة درغام

المرشح الجمهوري المفترض للرئاسة الأميركية جان ماكين مستفيد كبير من ذلك الإعلان الذي حمله الهاتف بصورة تدب الرعب في النفوس فيما الأطفال في سبات عميق في الساعة الثالثة صباحاً. السناتور هيلاري كلينتون أطلقت ذلك الإعلان لتشدد على أنها هي التي تملك ميزات القيادة والخبرة لترد على المخابرة وتتخذ قرارات صالحة لحماية الأمن القومي والمستقبل الأميركي موحية بأن السناتور باراك أوباما لا يمتلك تلك الصفات.

الإعلان ساعد هيلاري كلينتون في فوزها بولايتين أساسيتين، أوهايو وتكساس، ودب الروح في حملتها لدرجة أن هناك ثقة متجددة بإمكان فوزها بالترشيح الديموقراطي، وهناك كلام مجدداً حول احتمال أن تطلب من باراك أوباما أن يرافقها في منصب نائب الرئيس، إنما لرموز ذلك الإعلان أهمية أوسع، إذ أنه وضّح أولاً أن الناخب الأميركي المعارض للحرب يضع مسألة الأمن القومي في طليعة أولوياته وهذا سيساعد كثيراً جان ماكين، إذ أن الرجل اقترن بوضع الأمن القومي في أعلى قائمته. وثانياً، أعاد الإعلان إلى ذهن الناخب الأميركي أن الخطر عليه آتٍ من الخارج - خطر الإرهاب العالمي الذي يهدد طمأنينة أولاده، وخطر الحروب الاقليمية التي تأتي عليه بمفاجأة لتهدد مصالحه الوطنية - وفي الحالتين، تبرز المنطقة العربية والعالم الإسلامي بامتياز.

صدفة، كان الرقم الذي سطع مؤشراً على فوز جان ماكين بالأصوات الكافية لترشيحه من قبل الحزب الجمهوري الرقم 1191 الذي يذكر بالإرهاب الذي أطاح توأمي المركز التجاري العالمي في نيويورك عام 2001، وبات يعرف بتاريخه 911. إنه بمثابة ختم في باطن الذهن الأميركي يوقد الحس الوطني ومعه الإصرار على الانتصار في حرب الإرهاب.

ما لم يكن من قبيل الصدفة هو قيام المنافسة على الترشيح الديموقراطي بإعداد إعلان يوقظ المخاوف من الإرهاب فيما كانت تتوجه إلى محطة مصيرية في حملتها الانتخابية. فلقد كان هدف هيلاري كلينتون القول إنها هي القادرة على توفير الحماية والأمن، وليس باراك أوباما، الذي، بحسب قولها، يفتقد الخبرة والتجربة وانشغل حتى عن الادلاء بصوته في مجلس الشيوخ عند التصويت على مسألة بأهمية أفغانستان، إنما باحيائها دقات القلب خوفاً - كتلك التي امتلكت الأميركيين يوم 11/9 - عَبرت هيلاري بالقاعدة الشعبية الديموقراطية من الزج بنفسها في خانة التصنيف بالعداء للحرب تحت أي ظرف إلى ايقاظ نفسها لكونها متمسكة بالأمن القومي ومتطلبات حمايته تحت كل ظرف كان. وهذا تطور مهم. فلن يكفي من الآن فصاعداً لباراك أوباما أن يبني استراتيجيته على معارضة حرب العراق التي يوصم بها الحزب الجمهوري والرئيس الحالي جورج دبليو بوش، لن يكسب في تكرار خطأ كالذي ارتكبه عندما قال ما معناه إن في حال ثبات عودة laquo;القاعدةraquo; إلى العراق في أعقاب سحبه القوات الأميركية بأسرع ما يمكن من العراق قد يعيد تلك القوات إلى ساحة المعركة (افتراضاً بعدما يكون نقل الحرب على الإرهاب إلى مكانها الطبيعي في أفغانستان، بحسب ما يوحي به). فذلك الخطأ التقطه جان ماكين فوراً ليذّكر بأن laquo;القاعدةraquo; تعمل الآن في العراق. حتى رد باراك أوباما بأن العراق كان خالياً من laquo;القاعدةraquo; وأمثالها إلى أن ادخلتها اليه حرب جورج دبليو بوش - والذي هو رد صحيح من حيث الفحوى - لن يساعده كثيراً. فالأميركيون يريدون حلولاً للواقع الآن وليس لما وقع قبل سنوات. حتى الغاضبون من جورج دبليو بوش لا يريدون لرئيسهم الاسترخاء أمام أي شيء يهدد الأمن القومي الأميركي. لذلك، إذا كان باراك أوباما يحسن قراءة المؤشرات، فسيضطر لتنقيح خطابه السياسي القائم على الترغيب بالحوار كوصفة حل سحرية وكمثال عملي وواقعي على أن موقف باراك أوباما في ما يخص الحوار مع إيران من دون أي شروط مسبقة قد تعدته التطورات.

هذا الأسبوع صدر قرار ثالث عن مجلس الأمن الدولي فرض المزيد من العقوبات على طهران، وكرر المطلب الرئيسي والأساسي الذي تطالب به الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن (روسيا، الصين، الولايات المتحدة، بريطانيا وفرنسا). المطلب بكل بساطة هو اشتراط موافقة طهران على تعليق تخصيب اليورانيوم كمدخل لرزمة الحوافز التي قدمتها الدول الخمس زائداً المانيا إليها. هذه الرزمة تشمل المباحثات والمحادثات بين الولايات المتحدة وإيران.

ولكن، لن تكون هناك أي مباحثات أو مفاوضات أو تعليق للعقوبات ما دامت طهران ترفض تعليق تخصيب اليورانيوم. فكيف سيتمكن باراك أوباما من القفز على اتفاق يشمل روسيا والصين وعلى قرار لمجلس الأمن الدولي بالاجماع (باستثناء امتناع اندونيسيا)، ويتوجه إلى مباحثات مباشرة مع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد من دون شروط مسبقة؟ فالسفير الروسي لدى الأمم المتحدة فيتالي تشيركن الذي يريد ترغيب إيران بالامتثال لمطلب التعليق ويقدم الحوافز ويراهن على الأفكار الخلاقة والقدرات الديبلوماسية والأخذ والعطاء الذي عبر عنه وزراء خارجية الدول الست، حتى هو يرى أن لا مجال للتخلي أو للتنازل عن مطلب تعليق إيران لتخصيب اليورانيوم، تحت أي ظرف كان. مثل هذا الواقع يجب أن يأخذه باراك أوباما في الاعتبار لأن الحملة الانتخابية ستتوجه نحو تفاصيل السياسة الخارجية المهمة، قريباً.

المثال الآخر يتعلق بالعراق وإيران والعلاقة الثلاثية الأميركية - العراقية - الإيرانية، وما حدث أثناء زيارة أحمدي نجاد للعراق الأسبوع الماضي. تلك الزيارة كانت تاريخية ورمزية، لكنها كشفت عن جانب آخر يستحق المراقبة له صلة بعلاقة حكومة نوري المالكي مع كل من إيران والولايات المتحدة. فمحمود أحمدي نجاد تحدث من العراق عن laquo;الاحتلالraquo; للعراق الذي يجب انهاؤه، من دون أن يصدر عن المالكي وحكومته أي احتجاج. بالطبع في هذا الكلام اساءة واهانة للقوات الأميركية التي توجد في العراق بطلب من الحكومة العراقية. فإذا كان نوري المالكي لا يريد وجودها على أراضيه، فليتقدم بطلب إليها للانسحاب الآن. أما وأنه يتوسل بقاء القوات الأميركية في العراق كصمام أمان يحول دون انهياره، فلقد كان عليه أن يحتج على تطاول الرئيس الإيراني على كل من العراق والولايات المتحدة. كان عليه أن يرفض تدخل إيران في شؤون العراق الداخلية. وكان عليه أن يستاء لأن صفة laquo;الاحتلالraquo; تصنفه هو وحكومته متواطئاً مع الاحتلال.

آية الله علي السيستاني، المرجع الشيعي العراقي الأهم في العراق، لم يستقبل أحمدي نجاد، وحرمه بذلك من زيارة النجف التي هي موقع الاستقلال الشيعي العراقي عن محاولات الهيمنة الإيرانية على الشيعة. وهو لم يدخل في حديث مباشر وبلا شروط مسبقة مع محمود أحمدي نجاد متصرفاً بحكمة وبوعي سياسي وبرسالة فائقة الأهمية تشير إلى الاستقلالية وإلى القلق من التدخل الإيراني في العراق. ولآية الله السيستاني أتباع في رفض الانضواء تحت الراية الإيرانية من شيعة ايضاً في لبنان وليس فقط في العراق.

كل من المرشحين الثلاثة سيهتم جداً بالعراق وإيران وبافرازات الدور الإيراني على منطقة الشرق الأوسط. جان ماكين جعل العراق مركزياً في حملته الانتخابية عندما عارض سياسة جورج دبليو بوش وأساليب وزير دفاعه حينذاك دونالد رامسفيلد، وعندما بادر إلى دعم فكرة تعزيز أعداد القوات الأميركية كوسيلة لتجنب الهزيمة على أيادي المتمردين والميليشيات والإرهاب، وفي إصراره على رفض وضع برنامج زمني للانسحاب والإصرار على استكمال الحرب في العراق إلى الانتصار.

أحد كبار المسؤولين العراقيين الذي يعرف جان ماكين عن كثب قال عنه laquo;إنه رجل واقعي، يفهم الوضع في العراق وأهمية الانتصار في العراق، وهو في الوقت نفسه ملتزم بقيم ومبادئ أساسية. وهذا التزاوج بين الواقعية والقيم يطمئن المنطقة ويطمئن العراق، لا سيما أنه رجل له خبرة ويفهم تعقيد الوضع العراقي ويعرف أهمية التوازن الاقليمي. إنه لن يكون من الضاغطين باتجاه إعلان حرب على إيران لكنه لن يقبل بالإمتداد الإيراني في المنطقة وسيكون حازماً في هذا الرفضraquo;. ويشير أحد مستشاري ماكين إلى أنه laquo;عانى شخصياً بسبب الحربraquo;، وكان أسيراً تعرض للتعذيب في فيتنام laquo;وكل من يعرف الحروب عن كثب لن يكون مروجاً للحربraquo;.

الغضب الأميركي من حرب العراق ومن تورط الولايات المتحدة في العراق ومن جورج دبليو بوش الذي دعم ماكين بصفته المرشح الجمهوري قد يؤذي جان مكاين. كذلك فالناخب الأميركي، لا سيما من الجيل الجديد، قد يجد نفسه laquo;يحبط ويدمر شيئاً جيداًraquo;، حسب تعبير أحدهم إذا عارض تغييرا تاريخيا يتمثل في فريق هيلاري كلينتون وباراك أوباما كرئيس ونائب رئيس، فالمشاركة في صنع التاريخ والتغيير لها جاذبية خاصة. وادخال امرأة ورجل أسود الى البيت الأبيض ليأخذا مكان المقعدين الذين احتلهما الرجل الأبيض، إنما هو أمر يدب الحماسة والتطلع والرغبة بالمشاركة وللتأكيد، إذا وافق باراك أوباما على أن يكون نائباً ليهلاري كلينتون (أو العكس، وهو مستبعد أكثر)، سيواجه جان ماكين معركة صعبة قد تكون أصعب معاركه في سعيه وراء البيت الأبيض. ما قد يساعده في المعركة هو نائب الرئيس الذي قد يختاره والذي، بحسب المؤشرات، لن يكون امرأة ولا رجلا أسود، بل سيكون بين حفنة من رجال يحتلون منصب حاكم ولاية جنوبية. وفي هذا المنعطف يتصدر مارك سانفورد، حاكم كارولينا الجنوبية القائمة، وهو شاب يافع قادر على القيادة في حال قرر جان ماكين انه سيكون رئيساً لولاية واحدة فقط (4 سنوات)، وهذا مرجح. إنما ما سيمهد الطريق لجان ماكين الى البيت الأبيض أو ما سيحرمه من هذا الحلم، هو جان ماكين نفسه أولاً وأخيراً، بشخصيته المستقلة التي تعجب البعض وتثير استياء البعض الآخر.

المحافظون الجمهوريون الغاضبون من استقلاليته وفوزه شبه المضمون بالترشيح الجمهوري يدركون أن ماكين عنوان انحسار عهدهم وعهد التسلط الذي يعبرون عنه. المحافظون الجدد لا علاقة لهم به، فهم ارتدوا على جورج بوش واختبأوا بعد ذلك في طيات ترشيح رودي جولياني، وهم يخشون من خبرة ومعرفة واستقلالية ومحدودية صبر ماكين عليهم. وبحسب أحد الخبراء في الحملات الانتخابية وفي الحزب الجمهوري، فإن توجه جان ماكين (في اليوم التالي لانسحاب مايكل هاكابي من المنافسة في اعقاب الرقم 1191) الى البيت الابيض لتلقي دعم جورج بوش ومباركته، يفيد كثيراً جان ماكين في سعيه وراء ضمان تصويت المستقلين معه. فالمؤسسة الجمهورية لطالما اعتبرته laquo;غير جمهوري بما فيه الكفايةraquo;. وبالتالي فإن دعم بوش يعني دعم المؤسسة الجمهورية لماكين، كأمر واقع، وهذا يعطيه جرعة اضافية من الاستقلالية - حتى عن الحزب الجمهوري إذا وجد في ذلك حاجة. بكلام آخر، ان جورج بوش يستفيد من دعمه لجان ماكين لأن في فوزه بالرئاسة فوزا لرئيس جمهوري لثالث جولة انتخابية - وهذا سيكون نصراً يحتفي به الرئيس الحالي يمكنه من ان يزعم انه خلّف وراءه رئيساً جمهورياً ولم يغادر البيت الابيض على أيادي رئيس ديموقراطي. ثانياً، ان دعم بوش لماكين يأتي في مقارنة مباشرة laquo;للولاءraquo;، إذا ان المرشح الديموقراطي للرئاسة حينذاك، آل غور، حرص على رسم مسافة بينه وبين الرئيس في البيت الأبيض حينها، بيل كلينتون، كي لا يدفع هو ثمن هفوات الآخر، فخسر الرهان.

إضافة، فان استراتيجية جان ماكين تبدو قائمة على ضمان ارضية الدعم الجمهوري له ثم التوجه باستقلالية نحو القاعدة الانتخابية المستقلة ليجذبها اليه على أساس تلك الاستقلالية التي تميزه وترّغب المستقلين به رئيساً. إذا نجح في هذه الاستراتيجية، يكون ماكين في صدد اعادة صنع الحزب الجمهوري والترشيح الجمهوري للرئاسة وفي صدد إعادة تعريف شيء يصبو اليه الناخب الاميركي اسمه laquo;التغييرraquo;.المعركة الانتخابية الأميركية شيقة فوق العادة هذه المرة حيث للسن والجنس واللون مكانة مميزة، سلباً أو ايجاباً. كل من المرشحين الثلاثة يصنع التغيير على طريقته. وهذا تماماً ما يجب ان يؤدي بجميع المراقبين المتشوقين في العالم والذين يراقبون هذه الانتخابات عن كثب الى تجنب إطلاق الأحكام والاستناجات المسبقة. فهذه ليست أبداً انتخابات كما جرت العادة، وهنيئاً لأميركا بهذا الجديد الممتع.