خيرالله خيرالله

ان يرتفع العلم السوري على سفارة لدمشق في بيروت خطوة في غاية الاهمية. بل خطوة مفصلية ليت النظام السوري يستغلها من اجل اعادة النظر جذريا في نظرته الى لبنان وفي سياساته التي لم تتسبب، منذ اربعة عقود، سوى بالويلات للبنان واللبنانيين وسوريا والسوريين. ليس كافيا اعتراف هذا المسؤول السوري او ذاك بان اخطاء ارتكبت في لبنان. الموضوع ليس موضوع اخطاء بمقدار ما انه موضوع نظرة شاملة في حاجة الى تغيير جذري بعيدا كلّ البعد عن اي نوع من التفكير في انه كانت للتجربة السورية في لبنان ايجابية ما على اي صعيد كان.
يفترض في اي حاكم لسوريا امتلاك حد ادنى من الشجاعة لمواجهة الحقيقة بدل الهرب منها في شكل مستمر عن طريق العمل على تفكيك الوطن الصغير من الداخل، عبر المنظمات الفلسطينية في مرحلة ما، ثم عبر الميليشيات المحلية في مرحلة لاحقة.
على من يقدم على خطوة التبادل الديبلوماسي مع لبنان، استتباع هذه الخطوة التي تلي الانسحاب العسكري من البلد بخطوات اخرى تندرج في سياق منطق واضح كل الوضوح يوفر على لبنان وسوريا الكثير من المشاكل مستقبلا. للمرة المليون ان الانتصار على لبنان ليس بديلا من الانتصار على اسرائيل. اكثر من ذلك، ان الانتصار على لبنان لا يؤمن دورا اقليميا لسوريا بمقدار ما انه رهان على اوهام لا اكثر. انه رهان تبين مع مرور الوقت انه يصب في الهاء سوريا عن القضايا الاساسية المرتبطة بمستقبل شعبها وكيفية توفير الرفاه له وربطه بالعالم الحقيقي بدل العيش على الشعارات والاحلام التي لا تساهم الا في تدمير المجتمع وجعله يتراجع بشكل مستمر.
يصعب على النظام السوري الاستفادة من دروس الماضي القريب. انه نظام يعتقد بكل بساطة انه حقق سلسلة من الانتصارات في الفترة الاخيرة وان السنة المنصرمة كانت سنة التحولات الكبيرة التي مكنت دمشق من فك عزلتها بدليل ان الرئيس نيكولا ساركوزي زار دمشق مشرعا الابواب امام مسؤولين اوروبيين ودوليين اخرين بدأوا يعتبرون العاصمة السورية محطة لا بدّ منها في اي جولة شرق اوسطية. يمكن ان يكون هذا الكلام صحيحا. يستطيع حتى بعض الديبلوماسيين السوريين، من الذين يظنون انه كان لهم دور في اعادة مد الجسور مع الدول الاوروبية، التبجح بان العمل الذي قاموا به يمثل quot;اختراقاquot; بكل معنى الكلمة. نعم، هناك انفتاح اوروبي ما على دمشق. هذا الانفتاح يمكن ان يتوج خلال الاسابيع المقبلة بحوار مع الادارة الاميركية الجديدة. ولكن يظل الانفتاح الاوروبي والحوار مع واشنطن اقرب الى بناء قصور على الرمل اكثر من اي شيء اخر في غياب تغيير جدي في السلوك العام وفي غياب القدرة على التخلي عن الاوهام اللبنانية للنظام خصوصا. كل ما في الامر ان هناك حاليا رغبة اسرائيلية في ترطيب الاجواء مع الجانب السوري ومتابعة الحوار غير المباشر في اطار عملية اسمها الحوار من اجل الحوار. فالواضح، ان هناك اصرارا اسرائيليا على حماية النظام الحالي لاسباب مرتبطة بتركيبته من جهة والهدوء المستمر على جبهة الجولان منذ العام 1974 من جهة اخرى. اكثر من ذلك، ان اسرائيل التي تمر حاليا بمرحلة انتقالية، تدرك ان لا وجود لسبب يمكن ان يدفع النظام السوري الى تحقيق اتفاق سلام معها وان هدفه الحقيقي من المفاوضات المباشرة، في حال حصولها، هو التفاوض مع الاميركيين في شان صفقة تعيد لبنان تحت الوصاية السورية... وهذا امر لم تعترض اسرائيل يوما عليه!
مثل هذا التفكير الذي دفع النظام السوري الى فتح سفارة في بيروت، يتعارض مع فكرة السفارة والهدف من فتح سفارة. لا يمكن اعادة عقارب الساعة الى خلف والعمل تحت غطاء السفارة من اجل الوصول الى مآرب اخرى. في النهاية ان خطوة فتح السفارة مهمة في حال تلتها خطوات اخرى على رأسها ترسيم الحدود ابتداء من مزارع شبعا والتوقف عن تهريب الاسلحة الى لبنان وتوفير غطاء للقواعد الفلسطينية التابعة للاجهزة السورية في اي بقعة من الاراضي اللبنانية. هناك خطوات كثيرة، يفترض في النظام السوري الاقدام عليها لتوفير معنى ذي طابع سياسي لخطوة التبادل الديبلوماسي مع لبنان، بما في ذلك التعاطي المباشر مع الشرعية اللبنانية ممثلة برئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ومؤسسات الدولة اللبنانية بدل الظهور في مظهر من يحاول التعاطي مع اللبنانيين بالمفرق عن طريق استخدام اداة مثل النائب ميشال عون لاثبات ان المسيحيين في لبنان متعاطفون مع النظام السوري. هذه نقطة ضعف وليست نقطة قوة للنظام الذي يلعب، للمرة الاولى منذ وجوده، ورقة المسيحيين والدروز في اطار محاولته العودة الى لبنان بطريقة او باخرى.
كان النظام السوري في غنى عن الاعيب ومناورات من هذا النوع. لعلّ اقل ما في استطاعته تاكيده، بالافعال اوّلا، ان السفارة تفتح صفحة جديدة في نظرته الى لبنان وان الخطوة التالية تتمثّل في ترسيم الحدود والاقتناع بان ورقة القواعد الفلسطينية عفا عنها الزمن ولم تعد تصلح لبداية القرن الواحد والعشرين.
تبقى قضية المحكمة الدولية التي تتحكم بكل تصرفات النظام. الاكيد ان الاعيب من هذا النوع لن تلغي المحكمة ولن تغيّر شيئا في علاقة المجتمع الدولي بالنظام السوري. على النظام ان لا يعتقد ان سفارة من نوع تلك التي كان يقيمها الاتحاد السوفياتي، قبل سقوطه، في برلين او بودابست او وارسو او صوفيا يمكن ان تقدم او تؤخر... في غياب تغيير في العمق في نظرته الى لبنان!