عبدالله خليفة الشايجي
مرة أخرى يتكرر المشهد ونستعيد الشريط المؤلم نفسه في وحشيته وهمجيته اللتين تفضحان ضعف النظام الأمني الإقليمي العربي وهشاشة قدرته على الارتقاء إلى مستوى ضغوط الأحداث. وهكذا، يسقط القناع وينفضح زيف مواقف الغرب quot;الإنسانيةquot; وكيله بمكاييل لا عد لها ولا حصر. أما الهمجية الإسرائيلية فليست في حاجة إلى مزيد تعرية أو دليل بعد 60 عاماً على قيام كيانها المغتصب، فلا زالت تقاتل وتقتل وتعربد في المنطقة، على رغم إصرارها على الزعم بأنها دولة صناعية متطورة وquot;واحة الديمقراطيةquot; الوحيدة في المنطقة. ولذا لم يقنع أحداً كلام تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية المتطلعة لترؤس الحكومة القادمة، عن القيم الإسرائيلية الفارغة من مضمونها والمجردة من إنسانيتها، بكل المقاييس. وآخر تلك القيم إراقة الدماء والأشلاء ومنع المراسلين الأجانب من الدخول إلى غزة في رقابة من إسرائيل quot;الديمقراطيةquot; للتغطية على الفظائع والجرائم التي تقترفها. كما أن المسؤولين الإسرائيليين، وخاصة ليفني نفسها التي أنكرت وجود أزمة إنسانية في غزة، ظهروا متخبطين وغير مقنعين في دفاعهم البائس والتعيس عن حربهم على غزة في مقابلاتهم على الفضائيات العربية والغربية، وفي تبريراتهم للمجاذر التي لا يمكنهم إخفاؤها باسم محاربة quot;الإرهابquot;، وذلك لأن لغة الأرقام المؤلمة تفضح التذاكي الإسرائيلي، فمقابل كل 100 فلسطيني استشهد، سقط إسرائيلي واحد. وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب أو تُحجب لفضح الخلل الكبير في موازين القوى.
كيف يُعقل أن تحدث مثل هذه لمجازر والفظاعات في مطلع الألفية الثالثة؟ كيف نتشتت نحن ونتلهَّى في صراعاتنا وخلافاتنا كفلسطينيين وكعرب، ونصر على نجاح الرهان الإسرائيلي قبل العربي والغربي على تفككنا وتشرذمنا؟ حيث تحولت مواقفنا إلى بيانات إنشائية، وشجب واستنكار مكرورين.
يا للمرارة، ويا لذاكرتنا الممضخمة بالخيبة والإحباط. تاريخياً عجزت المواقف العربية عن انتشالنا من مآسينا، من النكبة إلى الرصاص المتدفق في حملة غزة الدامية، وما بينهما من خيبات ومصائب. اسألوا الفلسطينيين واللبنانيين والكويتيين والعراقيين والصوماليين يخبرونكم جميعاً عن مآلات، بل مرارات، التضامن والدفاع العربي المشترك. أما تداعيات هذه الحرب المفتوحة فتشمل المنطقة بأسرها، وتثبت محورية الصراع العربي/ الإسرائيلي، والحاجة الملحة للتوصل إلى حل يجعل منه أولوية لإدارة أوباما القادمة للتعامل معه بجدية.
واضح إذن أن الأهداف الإسرائيلية الاستراتيجية غير المعلنة لحرب غزة هي أولاً: خلط الأوراق، مع تردد في خوض حرب برية، ووصول صواريخ النشطاء الفلسطينيين إلى مدن بعيدة لم تصلها من قبل. وأثناء كل ذلك ما فتئ المشهد يتكرر، انقسام وعجز عربي، ضعف أوروبي، وانحياز أميركي يلوم الضحية ويتسامح مع الجلاد. ثانياً، زيادة فرص جنرال الحرب إيهود باراك وعميلة الاستخبارات السابقة زعيمة quot;كاديماquot; ليفني في الفوز بالانتخابات البرلمانية في فبراير القادم. والمؤلم هنا هو التسييس الانتخابي للحرب بكل أهوالها ومحنها، والتكسب السياسي من الدم الفلسطيني المسكوب وسط تأييد شعبي يهودي متعطش للدم ومؤيد لحرب الإبادة بأغلبية 70%.
وفي المجمل يتكرر المشهد مرة أخرى ومرات ليعيد شريط حرب إسرائيل على لبنان، ويتكرر الموقف العربي الذي يشهد انفصاماً مريعاً بين بعض القيادات والشعوب، وعلى نحو لا يرتقي العرب معه مجدداً إلى مستوى فداحة ونزيف الدم. وتبقى العلامة الفارقة التي لا تتبدل في العمل العربي المشترك هي غياب الاستراتيجية الرادعة، وتشرذم الموقف، والضعف، والتفكك، والاندراج خارج المعادلة، في مواجهة الاصطفاف الغربي مع إسرائيل إما بالصمت وتوفير الغطاء، أو بالتواطؤ.
والحال أن الفشل والعجز العربي في الملمات بات شيئاً مكرراً. والانفصام يبدو كبيراً بين القيادات العربية وألم الشارع المكلوم الملتهب الذي يعبر بالمظاهرات، التي تقمع أحياناً، عن تعاطف عن بعد وآلام في القلب. وحتى القمة العربية الطارئة لم تُعقد. ويذهب العرب إلى حائط مبكى مجلس الأمن الذي ترفض واشنطن حتى صدور قرار منه يندد بإسرائيل أو يوقف مجازرها ويجبرها على الانصياع.
التعليقات