طلعت رميح

دارت عجلة التفاوض بشأن إنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة .كان قرار مجلس الأمن ndash;المدان-هو إعلان ببدء دخول التفاوض على حقل التقاتل ومن بعد دارت عجلة التفاوض عبر المبادرة المصرية، كإطار لإنفاذ وترجمة قرار مجلس الأمن .وفي التفاوض يحاول كل طرف ترجمة أهدافه السياسية إلى خطط واتفاق يقر به الطرف الآخر، وفقا للأوضاع التي تحققت في المعركة العسكرية (العدوان من قبل إسرائيل ndash; والدفاع والصمود من قبل المقاومة) .والمعنى أن المفاوضات لا تجرى بما في الرؤوس وإنما وفقا لحالة دراسة معقدة وشاملة لكل عوامل القوة والضعف وضمن إستراتيجية تفاعلية تراقب تطور وتغير المواقف.
وفي دخول حركة حماس مرحلة التفاوض ndash;مع استمرار العدوان ومواجهة المقاومة له ndash;فإنها تدخل إلى ساحة وضع معقد لا يقل ضراوة عن أعمال القتال والقتل الجارية في أرض الميدان في غزة، فهناك أساس التفاوض الذي لم تشارك حماس في صياغته وهناك الارتباط بين التفاوض والتقاتل على الأرض أو التفاوض تحت ضغط استمرار المحارق ضد أهل غزة وهناك عامل الزمن وتأثيراته على ضرورات إنجاز التفاوض ..الخ .لكن هناك إشكالية أخرى تتعلق بمن يتفاوض أو من هو صاحب القرار في القبول أو الرفض ndash;يجب أن نتنبه به ndash; إذ أن حماس كممثل للمقاتلين المقاومين على الأرض في وضع تحتاج فيه إلى سند جماهيري عربي وإسلامي ودولي في المعركة السياسية أو معركة التفاوض من أجل قصر تمثيل المقاتلين الفلسطينيين المدافعين عن غزة على حركة حماس والقوى المقاومة الأخرى، لمواجهة الدور الذي يلعبه رئيس السلطة الفلسطينية.
كيف نقول هذا ووفد حماس يتفاوض في القاهرة يذهب ويعود ويدلي برأيه رفضا وقبولا؟.
واقع الحال أن حماس تواجه إشكالية خطرة، على صعيد التفاوض والصراع السياسي ينبغي التشديد عليها لما تطرحه من واجبات على الحركة الجماهيرية المساندة للمقاومة الفلسطينية. فالجماهير والقوى والمنظمات الداعمة للمقاومة، يجب أن تدرك أن ثورتها وغضبها لرؤية الضحايا وتأكيدها في تظاهراتها ومختلف أشكال التعبير على دعمها للمقاومة، يجب أن يمتد إلى مساندة المفاوض عن المقاومة، وباعتبار أن المقاومة ليست حالة قتالية فقط، بل هي مزيج نشط من العمل العسكري والجماهيري والسياسي والإعلامي، ولذلك يبدو ضروريا الانتباه على ضرورة استمرار مختلف أنشطة التفاعل والضغط الجماهيري خلال كل مراحل عمل ونشاط التفاوض، فما بالنا إذا كان القتال لا يزال مستمرا ومشاهد القتل والدمار على حالها.
والحاصل أن ما تتعرض له حماس فيما يتعلق بالتفاوض، يذكرنا بذات الحالة التي عاشت فيها المقاومة اللبنانية خلال عدوان عام 2006 وإن كانت حماس في وضع أعقد. خلال العدوان على لبنان كان هناك قوى سياسية لبنانية تقف ضد المقاومة على الصعيد السياسي والإعلامي، لكن الأخطر أن الحكومة اللبنانية في ذاك الوقت كانت على خلاف مع المقاومة إلى درجة استثمار أوضاع الصراع الحربي لإضعاف تلك المقاومة، فعقب إدراك القيادة الإسرائيلية فشلها في تحقيق أهدافها -رغم ما منحته لها الولايات المتحدة من تعطيل لصدور قرار دولي بوقف العدوان ndash;اضطرت إسرائيل إلى بدء التفاوض عبر قرار مجلس الأمن لوقف القتال، في مفاوضات ومناورات طالت لبعض الوقت بينما القتال جاريا .هنا كانت الإشكالية التي واجهتها المقاومة اللبنانية هي أن الحكومة اللبنانية التي كانت تتفاوض باسم لبنان، كان لها مواقف متناقضة مع المقاومة وناقدة لها إن لم نقل أنها كانت خصما لها.
وفي الحالة الفلسطينية وإذ بدأت عمليات التفاوض لإنفاذ قرار مجلس الأمن عبر بوابة المبادرة المصرية، فإن الأمر يكاد يكون تكرارا لذات الظرف الذي عاشته المقاومة اللبنانية ولكن وفق حالة أعقد وأخطر .فمن ناحية يقف الرئيس الفلسطيني المنتهية ولايته متحدثا باسم السلطة ومحاولا قصر تمثيل الشعب الفلسطيني عليه خاصة في قضية المعابر، كما هو يعلن مواقف مضادة لمواقف حماس ومواقف المقاومة على الأرض، خاصة بشأن قضية القوات الدولية، إذ رفضت المقاومة تلك الفكرة الإسرائيلية الخبيثة، وأعلنت أن المقاومة ستتعامل مع تلك القوات باعتبارها قوات احتلال، فإن عباس شدد على مطالبته بها. كما المقاومة تواجه في فكرة التمثيل القرارات الغربية المتحدة تأييدا لإسرائيل ضد حركة حماس بوصفها حركة إرهاب بدلا من اعتبار إسرائيل دولة إرهابية مارقة.
وكذا تواجه المقاومة الفلسطينية في مثل هذا الصراع التفاوضي خطرا آخر هو مشكلة قوة تأثير الموقف الرسمي العربي على المواقف الفلسطينية ndash;خلافا للحالة اللبنانية التي تبدو أقل تأثرا بالموقف الرسمي العربي ndash;إذ الدول العربية تعترف بمنظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وهي التي يرأسها حاليا محمود عباس ذاته ومن ثم فإن التمثيل الدبلوماسي لفلسطين في عموم المنطقة العربية ndash;وفي العالم بما ذلك الأمم المتحدة-هو مرتبط ومالي لعباس ويتحرك وفق رؤيته، كما حماس وفقا لذلك لا تشارك في المؤسسات الرسمية العربية.
هنا يبدو من الضروري التنبيه والإلحاح على أن تظل المظاهرات وكافة أشكال المواجهة الشعبية للعدوان الصهيوني على قوتها بل يجب مضاعفتها، ليس فقط لمواجهة استمرار المحرقة النازية في غزة، أو دعما للمقاومة المتواصلة ببطولة غير مسبوقة في تاريخ الشعوب في مواجهة الاحتلال، ولكن أيضا لمساندة المفاوض الفلسطيني.

القوة الصلبة.. والناعمة
ليس هناك من عمل عسكري دون أهداف سياسية سواء كانت أهدافا كلية واسعة أو كانت أهدافا ذات مساحة محددة ضمن صراع كبير متواصل على فترة زمنية طويلة، ويجرى حسمه من خلال معارك مرحلية .وإذا كانت الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل القتال، فإن حل معضلة الحرب والصراع المسلح، يجرى دوما بالطرق الدبلوماسية عبر التفاوض المباشر أو غير المباشر بين الأطراف المتصارعة لكن بوسائل الدبلوماسية .إذ الطرق الدبلوماسية هي وجه آخر وامتداد للسياسة وأهدافها مثلها مثل القتال، كما أن المفاوضات تجرى وفق الوقائع المفروضة على الأرض خلال القتال الذي هو امتداد للسياسة.
لكن هذا الانعكاس للأوضاع على الأرض في صورة اتفاقات أو تفاهمات دائمة أو مؤقتة، لا يجرى بصفة ميكانيكية، بل هو يجرى بالارتباط بإرادة الطرفين ما بعد الاقتتال أو في المراحل الختامية للأعمال العسكرية وكذا لا يمكن إغفال أهمية الخبرات في مجالات العمل الدبلوماسي والتفاوضي، وهو الأمر المعقد للغاية في حالات صراع المقاومة أكثر من حالات صراع الدول.
في حالة الحروب بين الدول، تكون نتائج الحرب واضحة ومحددة وإلى حد ما نهائية .في الحرب العالمية الثانية استسلمت اليابان بعد القصف النووي الأمريكي، وانتهت الإستراتيجية والنظام الألماني إلى الهزيمة واحتلال الأرض الألمانية كاملة (نصفها احتله الاتحاد السوفيتي ونصفها الآخر احتلته الولايات المتحدة) وكذا الحال في إيطاليا إذ انتهى النظام الفاشي إلى الهزيمة..الخ.

الوقت ..والتوقيت
في المفاوضات الراهنة فإن الأسس التي تجري وفقها هي قرار مجلس الأمن والمبادرة المصرية، غير أن الأهم في التأثير على المفاوضات ونتائجها هو الواقع الفعلي على أرض المعركة الجارية .الطرف الإسرائيلي يستهدف من العملية التفاوضية تحقيق الأهداف السياسية للعمل العسكري، أي استثمار ما تحقق للقوات الإسرائيلية من احتلال ومن ضغط على السكان المدنيين والمجتمع الفلسطيني .كما يمكن القول بأن إسرائيل تحاول استثمار الوضع العربي المهترىء والضعيف وأوضاع السلطة الفلسطينية في رام الله، كعوامل ضغط على المقاومة . والطرف الفلسطيني، يحاول ترجمة الصمود الحادث على الأرض والخسائر التي منى بها الجيش والمجتمع الصهيوني، كما هو يرتكن إلى الضغط الشعبي العربي والإسلامي والدولي ومنظمات المجتمع المدني والأهلي في العالم التي تتحرك لإدانة إسرائيل وإلى تصاعد الخسائر السياسية لإسرائيل على صعيد علاقاتها الخارجية في العالم . وهو يستهدف إلى استثمار تلك الأوضاع لتحسين أوضاع المقاومة والشعب الفلسطيني من خلال تعديل الشروط التي كانت قبلت بها في التهدئة السابقة وتطويرها لمصلحة الشعب الفلسطيني.
وإذا كانت تلك هي الأهداف والأوضاع، فإن الأهم في كل ما يجرى هو كيفية إدارة معركة التفاوض خاصة فيما يتعلق بعنصر الوقت والزمن . في الحالة الإسرائيلية فنحن أمام مراهنة على عامل الوقت من زاوية الإسراع بالوصول بالمفاوضات إلى نهايتها بأسرع وقت ممكن،على اعتبار أن عامل الوقت هو أخطر نقاط ضعف الوضع الإسرائيلي، إذ المجتمع الإسرائيلي لا يتحمل البقاء في الملاجئ لفترة طويلة، ولأن الوضع العربي والدولي لا يمكن الاستمرار في التغاضي عن نتائج تفاعلاته لوقت طويل وكذا يبدو أمر استلام الرئيس الأمريكي الجديد عاملا ضاغطا، وكذا لخشية إسرائيل من احتمالات توسع الصراع من غزة إلى صراع إقليمي بدرجة أو بأخرى أو بالدقة لخشيتها من توسع الصراع من غزة إلى الجبهة الشمالية ..كما أن استمرار بقاء الجيش الإسرائيلي في أوضاع المعركة وفق معطيات المرحلة الثانية أو الثالثة من خطة العدوان، عامل خطر شديد على ما تحقق من توغل واحتلال، إذ الأمور تتحول للانقلاب إلى صالح الطرف الآخر مع مضى الوقت. وعلى الطرف الآخر، يبدو الجانب الفلسطيني مراهنا على عامل الوقت، فرغم الضغط على المجتمع الفلسطيني بهذه القدرة العسكرية وقوة النيران، إلا أن طول وقت المعركة يعزز عوامل نصر المقاومة ويجعل الطرف الآخر قابلا لتقديم التنازلات بحكم تأكل ما تحقق له، بفعل انقلاب ما تحقق بفعل عوامل القوة التكنولوجية إلى جوانب ضعف، خاصة في المجال العسكري بعد اتساع حجم التداخل على الأرض بين القوات الإسرائيلية والمقاومة.
ولذلك يبدو الطرف الإسرائيلي متعجلا في الوصول لاتفاق، وهذا هو سبب التوسع في ضغطه العسكري وتكثيف قوة نيرانه وموسعا لإعداد الضحايا لأجل اختصار الوقت للوصول إلى نتائج التفاوض الجاري، بينما الطرف المقاوم براهن على الوقت مع احتمال الخسائر، باعتبار أن الوضع الاستراتيجي يتحول بمضي الوقت لمصلحة المقاومة.