ضحايا مجزرة بغداد يقتلون مرتين

فيصل جلول

علق علي الدباغ الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية على حكم قضائي أمريكي ببراءة ldquo;بلاك ووترrdquo; من مجزرة 16 سبتمبر/ أيلول الشهيرة في بغداد عام 2007 بالقول إن حكومته ldquo;ستستخدم كل الوسائل الممكنة لملاحقة مجرمي هذه الشركةrdquo;، أما وزيرة حقوق الإنسان العراقية وجدان ميكاييل فقد عبرت عن استيائها من الحكم، وفي الحالتين مر رد الفعل مرور الكرام . وكانت صحيفة ldquo;نيويورك تايمزrdquo; قد نشرت عقب صدور الحكم ردود فعل مواطنين عراقيين تضرروا مباشرة من المجزرة، ومن بينهم المواطن عبدالوهاب عبدالقادر الذي تساءل: ldquo;ألسنا بشراً؟ لماذا يحق لهم أن يقتلونا؟ وهل دمنا رخيص إلى هذا الحد؟rdquo;، أما الشرطي علي خلف فقال: ldquo;ماذا لو كان القتلى من الأمريكيين، فهل كانت النتيجة واحدة؟rdquo; .

تجدر الإشارة إلى أن القاضي الأمريكي ldquo;ريكاردو ايربيناrdquo; حكم ببراءة خمسة أعضاء من شركة ldquo;بلاك ووترrdquo; الأمنية متهمين بمجزرة بغداد، وذلك بحجة أن الادعاء انتهك حقوق الدفاع لأنه استند إلى شهادات كان قد أدلى بها المتهمون مع وعد بألا تستخدم هذه الشهادات لإدانتهم أو مقاضاتهم . بكلام آخر حصل المدعي العام الأمريكي في القضية على اعترافات المتهمين بالجريمة وضمن لهم البراءة منها، لمعرفته بأن هذه الطريقة مخالفة لأصول التحقيق .

معلوم أن مجزرة بغداد أدت إلى سقوط 28 عراقياً أثناء موكب للسفير الأمريكي رايان كروكر في أحد شوارع العاصمة، وذلك بعد أن اشتبه حراسه من ldquo;بلاك ووترrdquo; بسيارة مدنية على طريق الموكب . ومعلوم أيضاً أن الحاكم الأمريكي بول بريمر كان قد أصدر القانون رقم 17 قبل يومين من رحيله عن بغداد، وينص على حماية الشركات الأمنية من أية مساءلة قانونية على الأراضي العراقية وقد صادق الكونجرس الأمريكي على هذا القرار من بعد .

تتكثف في هذه القضية كل عناصر الدراما الدموية العراقية، وفي طليعتها خطيئة الاحتلال وفق ادعاءات كاذبة ومن ثم الخطايا التي تفرعت عنها . ولعل مجزرة بغداد التي أريد لها أن تصل إلى القضاء الأمريكي وأن تكون ldquo;كبش محرقةrdquo; لقتل أكثر من مليون عراقي وتشريد ملايين من البشر، وتخريب الدولة والاقتصاد ونهب الموارد وتحويل البلاد بأسرها إلى فضاء للقتل العاري، فإذا بالقضاء يعيد المجزرة إلى أصحابها عبر الحكم ببراءة المتهمين، كأنه يقول، ما دام القاتل محمياً بقرار من أعلى سلطة في الولايات المتحدة وما دام قتل العراقيين بواسطة الآلة الحربية الأمريكية محمياً بالقوانين الأمريكية ويحظى بتغطية ما يسمى المجتمع الدولي، فمن غير المنطقي عزل جريمة واحدة عن هذا الفضاء الدامي، وبالتالي الحكم على مرتكبيها الخمسة بوصفهم قتلة الشعب العراقي، وإسدال الستار على القتلة الكبار ومساعدتهم على غسل أياديهم من دماء العراقيين .

والجانب الدرامي الآخر في هذه القضية يتصل بردود فعل الناجين من المجزرة، فعندما يتساءل أحد الناجين عن قيمة الدم العراقي وما إذا كانت أقل من قيمة الدم الأمريكي، فإن سؤاله ينطوي على احتمالين، الأول يعني أن الضحية ما برحت تظن أن الاحتلال هو مجلبة للحرية والعدالة والديمقراطية وأن الحكم ببراءة مرتكبي المجزرة مناقض لحسن ظنه بالمحتل وبعدالته، والاحتمال الثاني يعني أن الضحية لا حيلة لها في فضاء عراقي يضج بالقتلة الأجانب وعملائهم المحليين، وبالتالي فهي تنطق بصوت مخنوق ومضطرب كrdquo;الطير يرقص مذبوحاً من الألمrdquo; .

وبين الجانبين المأساويين أعلاه يبدو حديث الناطق على الدباغ عن ldquo;وسائل حكومتهrdquo; لملاحقة المجرمين هزلياً إلى درجة تفوق الوصف، ولا يفوقه هزلاً إلا ldquo;استياءrdquo; وزيرة حقوق الإنسان العراقية، وكلاهما لا يملك من القيم والوسائل غير ما يترامى من سلطة المحتل ومن كاريكاتير أخلاقياته وخطبه الحقوقية الوعظية .

وإذا كان لا عزاء لضحايا مجزرة بغداد، وكل المجازر العراقية الممتدة على مساحة بلاد الرافدين منذ سبعة أعوام، في حكم القضاء الأمريكي وفي مبررات المحتل الكاذبة وفي مزاعم وأكاذيب عملائه ودماه المحليين، فإن السكوت العربي على هذه المجزرة وعلى الحكم ببراءة المجرمين يمعن في يأس الضحايا ويسهم في دفعهم أكثر فأكثر للانخراط في حمام الدم العراقي .

إن الحكم ببراءة مجرمي ldquo;بلاك ووترrdquo; في مجزرة سبتمبر/ أيلول البغدادية يعني أن القتلة كانوا على حق وأن ضحاياهم يستحقون القتل، ويعني أن الشريعة الوحيدة المتاحة في العراق تحت الاحتلال هي شريعة الغاب، وعندما تسود هذه الشريعة أرض السواد لا يحق لأي أمريكي مهما علا كعبه أن ينتحل اللطف متسائلاً: لماذا يكرهنا العراقيون والعرب والمسلمون؟