إمحمد مالكي

شَكَّل مرورُ الذكرى الستين على تأسيس حلف شمال الأطلسي (1949 - 2009) مناسبةً للتفكير في تجربة هذه المنظمة ذات الأبعاد الأمنية العسكرية، والسياسية والقيمية. ففي ديباجة الوثيقة التأسيسية للحلف تمَّ التأكيد على laquo;أن الدول الأعضاء عازمة على حماية الحرية والميراث والحضارة عن طريق تشجيع الاستقرار والرفاهية، في المجال الجغرافي لشمال الأطلسيraquo;، ليقع التشديد، بعد ذلك، على الجانب العسكري بالقول laquo;إن الدول الأعضاء عازمة على توحيد جهودها من أجل دفاعها الجماعي والحفاظ على الأمن والسلامraquo;.
لذلك، توحي فلسفةُ إحداث حلف laquo;الناتوraquo; بأن الأمر يتعلق بهدفين استراتيجيين متوازيين ومتكاملين: الدفاع عن الهوية الجماعية للدول للأعضاء، والسهر على أمن واستقرار وجودها السياسي والجغرافي، وإذا نحن اعتمدنا منطق النص المؤسِّس (1949)، فإن للجانب القيمي (المنظومة الليبرالية) الأولوية على الشق الأمني والعسكري، بمعنى أن القوة بمظهريها الناعم والصلب تكون وسيلةً لحماية الهوية الجماعية ورعاية استمرارها في منأى عن كل إجهاز أو تأثير، وقد نُظِر وقتئذ إلى laquo;حلف وارسوraquo; كمصدر إيديولوجي مركزي لتهديد قِوام الهوية الأوروبية الغربية المشتركة. فهل أثبتت الممارسة العملية التزام الحلف بهذا التوجه المعبّر عنه في وثائق التأسيس، أم، خلافاً لذلك، سلك التجربة مسلكَ تغليب البُعد الأمني والعسكري وتخويله الأولويةَ على نظيره القيمي والسياسي؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما هي الدوائر المرشحة، أو التي تمَّ ترشيحها، لأن تكون laquo;عدواًraquo; جديداً لحلف laquo;الناتوraquo; بعد انهيار غريمه حلف laquo;وارسوraquo;؟
تشترك العديد من الكتابات السياسية والإستراتيجية في أن الممارسة رجحت البُعد الأمني والعسكري على الجانب السياسي والقيمي في تجربة حلف شمال الأطلسي، ليس خلال عقود الحرب الباردة فقط، ولكن بعد زوال هذه الأخيرة وحصول أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
وللتدليل على صحة هذا التقدير، نشير إلى أن كلاً من البرتغال واليونان وتركيا على سبيل المثال كان لها دور مهم في مسيرة الحلف حتى قبل صيرورتها نظماً ديمقراطيةً، بسبب موقعها الإستراتيجي، وأهميتها الجيوسياسية المتميزة بالنسبة إلى سياسات الحلف. وربما كانت إسبانيا ستحظى بالتقدير نفسه لو لم يعوضها حضورُ الأسطول الأميركي في البحر الأبيض المتوسط.
وعلى النقيض من ذلك، بقيت فرنسا التي تشترك مع الدول المؤسِّسة للناتو في قيمة الديمقراطية بعيدةً عن عضوية الحلف لاعتبارات ذات الصلة بتقديرها لهوية هذا الأخير والأبعاد التي يروم تحقيقَها. ثم إن الموجات الجديدة من التوسع التي شهدها laquo;الناتوraquo; منذ مستهل العشرية الأخيرة من القرن الماضي، ولاسيما في اتجاه شرق ووسط أوروبا، والامتدادات الميدانية التي وصلت أفغانستان وبعض التخوم في آسيا، لم يكن الدافع الرئيس إليها البُعد القيمي والحضاري، بقدر ما كان المتحكِّم فيها المصدر الأمني والعسكري.
تأسيسا على ما سبق، ينطوي العالم الإسلامي، وتحديداً العالم العربي والإسلامي، على مفارقة من زاوية النظر إلى موقعه في إستراتيجيات حلف الشمال الأطلسي الجديدة. فمن جهة، تبدو المنطقة العربية الإسلامية أكثر الحلقات ضعفاً في ميزان القوة في العالم، ليس بسبب افتقاد بلدانها لمصادر القوة البشرية والمادية، ولكن لاعتبارات مرتبطة بمحددات بنيوية لصيقة بثقافة تدبير وتسيير الشأن العام عموماً.
غير أنها تمتلك، من زاوية ثانية، كل المؤهلات التي تجعلها جاذبة للقوى الأجنبية والتنافس الدولي. يُذكر أن laquo;الناتوraquo; في قممه الأطلسية الكثيرة، سعى إلى وضع صياغات وتوجهات إستراتيجية جديدة، تصدرتها قضايا محورية، أهمها: مكافحة الإرهاب، وأسلحة التدمير الشامل، ومواجهة خطورة الصواريخ البعيدة المدى، وملفات من طبيعة اقتصادية من قبيل الخلل في التوازنات البيئية، وطرق إمداد الطاقة والمواد الخام، والطرق التجارية، والهجرات الجماعية.. وحين نمعِن النظر في جوهر هذه الأولويات نجدها متوافرة وحاضرة بكثافة في ربوع المنطقة العربية الإسلامية، وإن بدرجات مختلفة من بلد إلى آخر.
ثم إذا نحن أضفنا المخزون القيمي الذي تنطوي عليه دول المنطقة، ويميزها عن مجالات حضارية وتاريخية أخرى، وفي صدارتها الغرب، نفهم لماذا باتت وجهةً ذات أولوية في جدلية الصراع الدولي، ونُدرك في الآن معاً لماذا تمَّ نعتها بـlaquo;قوس الأزماتraquo;.. فهل يذهب بنا الاستنتاج إلى الإقرار بأن المنطقة العربية الإسلامية أكثر ترشيحاً لانتقال laquo;العداوةraquo; إليها بعد سقوط حلف laquo;وارسوraquo;؟.. أم هناك دوائر أخرى تحظى بنظام الأولوية في تقديرات حلف laquo;الناتوraquo; الإستراتيجيةraquo;؟.
من نافل القول التذكير بأن وزير الدفاع على عهد الرئيس ج.بوش، السيد ديك شيني، أعلن في قمة ميونيخ للشؤون الأمنية العام 1990 عن أطروحة laquo; الإسلام عدو بديلraquo;، التي لم تجد قبولاً أوروبيا، وذلك قبل أن يقع تلطيفها وتعدل لتأخذ عنواناً جديداً laquo;الأصولية الإسلامية عدو بديلraquo;.
وفي كل الأحوال سواء بالصيغة الأصلية، أم بنظيرتها المنقحة، شكلت المنطقة الإسلامية الدائرة المرشحة بامتياز للصراع بعد انهيار حلف laquo;وارسوraquo;. وتؤكد العديد من التقارير أن توجهات حلف laquo;الناتوraquo; بعد القمة الستينية الأخيرة ( 2009) أولت أهمية خاصة في رؤيتها الاستشرافية لدوائر الصراع المقبلة لمنظومة القيم والبعد الحضاري، كما ميزت بين التنافس الاستراتيجي في شقيه الإقتصادي والسياسي، والصراع الحضاري والثقافي والقيمي، وحتى في داخل هذه الخانة الأخيرة، تصنف مراتب الصراع بحسب حدتها وخطورتها.
فهكذا، تشكل روسيا، والصين، وإلى حد ما الهند، أقطاباً منافسة إستراتيجيا لحلف laquo;الناتوraquo;، ما يعني إمكانية تدبير الاختلاف معها، من دون الوصول إلى حد التصادم معها، أو وضعها في موقع العدو الواجب مواجهته ودحره، في حين تعتبر المنطقة العربية الإسلامية دائرة صراع قيمي وحضاري من درجة متقدمة، كما شددت على ذلك، منذ مدة، أطروحة laquo;ص. هنتغتونraquo; بخصوص laquo;صراع الحضاراتraquo;. والواقع أن متابع الشأن الدولي، والمهتم بالسياسة الخارجية لحلف laquo;الناتوraquo;، يلمس حضور هذه النظرة في تفكير قادة هذه المنظمة وصناع استراتيجياتها الأمنية. فمن جهة، يزداد الانفتاح الغربي حيال روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، ويتصاعد سعي الدول الأوروبية إلى تطبيع العلاقات معها دونما خوف، في حين يُنظر إلى الصين إلى أنها العدو في المدى البعيد، فهي اليوم منافس استراتيجي، يجهد الغرب من أجل إيجاد أرضية للتوافق معه اقتصاديا وتجارياً، على الرغم من الاختلافات الإيديولوجية.. ثم إن الصين نفسها تستبعد الآن، وفي الزمن المنظور، أي صراع عسكري، أو أمني مع الغرب (الولايات المتحدة تحديداً) وتركز، بدرجة مركزية، على تقوية موقعها في النسيج الاقتصادي الدولي، مع تطويرها طبعاً لقدراتها العسكرية.