سليمان تقي الدين
نشأت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في إطار تداعيات القرار الدولي 1559 . منذ اللحظة الأولى لم تكن المحكمة محلّ إجماع، بل كانت محل نزاع وتسببت بانقسام الحكومة وشلّها . ولم يصدر قرار إنشاء المحكمة بموجب اتفاقية صادرة عن لبنان والأمم المتحدة، بل صدر قرارها لاحقاً بموجب الفصل السابع من نظام الأمم المتحدة ولم يأخذ بعين الاعتبار الإجراءات الدستورية اللبنانية .
لنضع مسؤولية الجرائم التي وقعت منذ عام 2005 في لبنان جانباً، ونسأل لماذا اهتم ldquo;المجتمع الدوليrdquo; لأول مرَّة في التاريخ بجريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان دون سواها من الجرائم؟ ولماذا منذ اللحظة الأولى جرى إسقاط دور العدالة اللبنانية وأجهزة الأمن والتحقيق، علماً أن كل ما يُشاع عن التحقيق مصدره الأساسي هو التحقيقات اللبنانية .
ساذج إذاً من يعتقد أن إقرار المحكمة ونظام التحقيق الدولي ليس مشروعاً سياسياً، وأنه يوظف بشكل أو بآخر لأغراض ومصالح الجهات التي أرادت تغيير أوضاع لبنان في إطار تغيير أوضاع المنطقة .
سار التحقيق الدولي بالتوازي مع الاتهام السياسي، فكان الواحد يدعم الآخر لقلب السلطة في لبنان ومحاصرة سوريا، وجرى بناء على التحقيق اعتقال الضباط الأربعة، وعزل رئيس الجمهورية وإسقاط الحكومة، وإجراء انتخابات نيابية من وحي الاتهام السياسي في أجوائه، وكذلك إخراج القوات السورية من لبنان، مع حملة واسعة من التحريض أدت إلى وقوع ضحايا لدى جميع الأطراف . استقبلت ldquo;المعارضة السورية المستجدةrdquo; في لبنان وجرى التنسيق معها بهدف تغيير الأوضاع في الداخل . لو نجحت تلك الخطط لطاولت الفوضى المنطقة كلها ووقعت كوارث سياسية وأمنية وإنسانية .
خلال تلك المرحلة ظهر على المسرح مجموعة من شهود الزور، كما بات مسلماً بذلك من جميع الأطراف يشهدون على علمهم بجريمة الاغتيال ووقائعها، يدارون بواسطة رموز وأطراف سياسية وجهات من السلطة الجديدة .
كيف أمكن اتهام سوريا سياسياً وبواسطة شهود الزور وبعض تقارير المحققيّن الدوليين على مدى أربع سنوات لينتهي الأمر باتهام ldquo;حزب اللهrdquo; اليوم؟
يُقال إن ما لدى المحكمة الدولية حول دور ldquo;حزب اللهrdquo; قديم، فإذا صح ذلك لماذا استمر اتهام سوريا أربع سنوات ثم جاءت تبرئتها (ولو جزئياً وبصورة ملتبسة) بعد خمس سنوات من الحدث؟
استنزفت المحكمة الدولية رصيد لبنان الوطني ووفاقه ووحدته وسممت أجواءه وعلاقات أبنائه وأوقعته بخسائر مادية ومعنوية كبيرة، فضلاً عن استنزاف سوريا سياسياً وإشغال العرب ولا سيّما المملكة العربية السعودية في هذا الملف والإساءة إلى علاقاتها بسوريا .
هذه وقائع بحد ذاتها تدل على تسييس المحكمة وتوظيفها لأغراض لا تتعلق بالعدالة . عندها يطرح السؤال عن خلفية الجريمة ذاتها ومن يقف وراءها ولماذا سلك التحقيق الدولي هذا الاتجاه، وكيف تحولت العدالة الدولية إلى ldquo;مصيدةrdquo; أو ldquo;فخrdquo; لابتزاز المنطقة كلها؟ نعم المنطقة، لأن المملكة العربية السعودية وسوريا دولتان معنيتان مباشرة بهذا الملف وتداعياته ما سيؤثر في العلاقات العربية كلها .
طبعاً أصبح من النافل السؤال عن العدالة الدولية تجاه قضايا العرب في فلسطين والعراق وغيرهما . أو تجاه قضايا دولية أخرى من ازدواجية في المعايير واستخدام سياسي لهذه العدالة ومن أدوار جرمية للدول العظمى، لكننا إزاء الوضع اللبناني نجد هذا الإصرار على خلق أوضاع من التوترات والفتن التي يراد لها أن تشق المنطقة كلها في صراع مذهبي يخرجها من المعادلة السياسية ومن العصر لاستكمال تصفية القضية الفلسطينية، ولجعل العرب مجرد ساحة ومتراساً في معركة الولايات المتحدة مع خصومها .
على هذا المستوى لا تعود مسألة القرار الاتهامي ل ldquo;حزب اللهrdquo; في جريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان مسألة يمكن التعامل معها في إطار القانون وعلى سطحه، بل هي قضية شائكة تستهدف تطويع هذا الحزب وضربه، ولكنها تستهدف الأمن اللبناني والعربي . لقد بدأت تداعيات ما تسرب عن القرار الاتهامي تظهر في الخطاب السياسي اللبناني وفي صراعات السلطة والتصادم بين مؤسساتها وفي تحويل هذا القرار العتيد إلى مادة انقسام من النوع الذي يشعل حرباً أهلية . هكذا صارت ldquo;العدالةrdquo; المزعومة لمصلحة شخص مدخلاً لجرائم لا تنتهي ومسلسلاً من الصدامات تطيح بأمن واستقرار لبنان وقد تؤدي إلى انهياره النهائي كدولة وتحويله إلى مجموعة من المحميات الطائفية التابعة لهذه الدولة أو تلك .
إذا كان هذا هو المشهد المتوقع الذي بدأت طلائعه تظهر في ردود أفعال الأطراف اللبنانيين فأي مصلحة في ldquo;العدالةrdquo; هذه، وأي مصلحة للفريق الذي يتمسك بالمحكمة الدولية؟
في الحقيقة ما يدور الآن على المسرح اللبناني هو خطر لأن الأطراف اللبنانيين يعجزون عن إيجاد المخارج والحلول ويرتبطون بتلك المؤثرات الخارجية، وينزلقون جميعهم في طريق العنف الذي يبدأ خطابياً ومعنوياً وينتقل إلى الصدام المادي في الشارع .
يعكس هذا الواقع أوضاعاً عربية غير صحية وغير سليمة، ويعكس العجز عن المبادرة ورؤية الأخطار مهما قيل في هذه أو تلك من محاولات التفاهم، خاصة بين سوريا والمملكة العربية السعودية، وكذلك مهما قيل في الانفتاح الأمريكي على سوريا . الواقع أن الجميع في مأزق، ولا شيء يدل على إمكان وقف هذا الاتجاه نحو الفوضى .
التعليقات