خالد الخاجة

ظل العالم العربي منذ فجر التاريخ، وما زال، محط أنظار قوى الشر جميعاً للسيطرة عليه، وتعددت الأسباب الدافعة إلى هذه الرغبة، وفي مقدمتها السيطرة على منطقة تتوسط العالم، ونقطة عبور بين الشرق والغرب والتقاء ما بين الشمال والجنوب، بأراضيه الشاسعة وما حباه الله به من سواحل ممتدة وممرات مائية استراتيجية، ثم تحولت إلى السيطرة الفكرية يوم أن كان لا يملك من الثروات ما يجعله مطمعاً، لكنه يمتلك من العقيدة والفكر ما يمثل تهديداً لكل من شيدوا بنيانهم على غير قاعدة قيمية تحفظ لهم التوازن بين الروح والمادة.

وازداد سعار الرغبة في السيطرة عليه عندما اكتشفت الثروات المخبوءة في باطن أرضه، وتم التخطيط للكيفية التي يتم بها ذلك في الخفاء، إلا أنها في العلن تلبس أثواباً شتى وتتذرع بمبررات متعددة، تارة تحمل اسم التنوير والتحديث، وتارة اسم الإنقاذ من الظلم ونشر العدل، وتارة ترفع لواء الحرية ونشر الديمقراطية والقضاء على الدكتاتورية، وأخرى باسم الحرب على الإرهاب.. وتعددت الأسماء واختلفت الأزياء، إلا أن الهدف ظل واحداً، وهو السيطرة على هذه المنطقة وكأننا كلأ مستباح.

والتاريخ يقص علينا الكثير ليجعلنا نتساءل؛ لماذا نحن العرب؟ ولماذا ظلت هذه المنطقة على وجه التحديد منطقة صراع لا تنتهي إحدى جولاته إلا وتبدأ أخرى، وكان من نتائج آخرها زراعة هذا الجسد الغريب ـ إسرائيل ـ في خاصرته؟

راودتني هذه التساؤلات وشغلت فكري باحثاً لها عن تعليل، والإجابة المقبولة التي قد تطرأ على الذهن للوهلة الأولى، هي ضعفنا العسكري وعدة الغازي وعتاده. غير أن الأقرب إلى الواقع أن كل تلك الحملات التي شهدها عالمنا العربي، كان أهم أسبابها قوة هذه المنطقة الحضارية التي باتت قيمها تنتشر بقوة الدفع الذاتية، للدرجة التي جعلت الغازي المحتل ـ التتار ـ يدخل في دين المغزو.

ولأن القوة العسكرية التي وجهها أعداء هذه الأمة لها لم تستطع القضاء على منعتها وتحطيم إرادتها، فقد بدأت الهجمات تشن ثقافياً بطرق متعددة، منها تشويه صورة العرب والمسلمين، مروراً بتوابع الحادي عشر من سبتمبر، ورسم الصور المسيئة للرسول الكريم، وليس انتهاءً بالقس المختل تيري جونز.

فبعد أن ظل الغرب لفترات طويلة في صراع عسكري مع أمتنا العربية، والذي لم تكن نتائجه كافية لهم، أدرك أن الصراع الحقيقي معنا هو صراع حضاري، وهكذا تحولت المعركة من ميدان السلاح إلى ميدان الفكر والثقافة، بداية من جحافل المستشرقين، ثم تكوين جيل من أبنائنا يتحدثون لغتنا، لكن عقولهم تشكلت في بيئة غير بيئتنا. هؤلاء هم الأكثر قدرة على التأثير فيمن حولهم، فنحن أميل إلى تصديق بني جلدتنا الذين يتزيون بزينا ويتحدثون بلساننا.

وفي ذلك يقول المؤرخ الأوروبي laquo;جوانفيلraquo;، وهو من الذين صاحبوا لويس التاسع في محبسه يوم أن شن حملته على رشيد، laquo;إن لويس خلص بعد كل المعارك التي خاضها، إلى أن الحروب العسكرية قد أنهكت قوة الغرب في المال والأرواح البشرية، وأنه لم يعد في مقدور دولة واحدة مواجهة العرب.

ولكن لا بد لأوروبا كلها أن تنهض للقضاء على هذا المارد قبل أن يخرج من القمقم ثانية، كما عليها أن تغير من أدوات المواجهة لتتحول الحملات العسكرية ـ الواضحة من حيث ميدان المعركة ـ إلى حملات تتوالى ولا تنتهي، لكنها لا تحمل سلاحاً ظاهراً، بل تتخفى تحت مسميات شتى، تسعى للتعرف على مواطن القوة فيضعفوها وعلى مواطن الضعف فيغتنموهاraquo;.

وقد كان له ما تمناه، وتحققت نجاحات تفوق في قيمتها ما حققه العسكر، ساعدها أنها جاءت في وقت تقدم فيه الغرب وتخلفت أمتنا التي نظرت إليه نظرة المغلوب إلى الغالب، بما تحمله من عقد النقص وقلة الحيلة أمام تيار ثقافي مسيطر، فصل أمتنا عن ينابيع قوتها ومصادر طاقتها المتمثلة في قيمها وحضارتها. والشواهد حولنا كثيرة، ومنها:

أولاً؛ أن كثيراً من أبناء أمتنا صاروا يعتقدون أن كل ما يأتي من الغرب هو خير خالص لا شر فيه، بل ويأخذون ما يقدمه على أنه قدر محتوم لا فكاك منه وما يصدر عنه من دراسات هو الصواب بعينه، ومن يقول بغير قولهم هو الجاهل غير العالم بمجريات عصره الراغب في النكوص على عقبيه.

ثانياً؛ صارت نماذج القدوة في كثير من الأحيان هي نماذج غربية، في حين غابت النماذج العربية، سواء في الفكر أو الفن أو الموسيقى وحتى في الرياضة. بل صار الغرب يحدد لقطاع كبير من أبنائنا وبناتنا ما يلبسونه.

ثالثاً؛ زاحمت اللغات الأجنبية لغتنا العربية في الجامعات والأسواق ودوائر العمل، وصارت تلك اللغات هي جواز المرور الذي من دونه تغلق في وجهك أبواب الرزق وينعدم الأمل في وظيفة متميزة، مما زاد الجفوة بين أبناء أمتنا ولغتهم التي تحول بينهم وبين تحقيق أمانيهم، فنشأ جيل لا هو قادر على إجادة اللغات الأجنبية كما يراد له، وغير قادر على إجادة اللغة العربية كما يجب أن يكون.

رابعاً؛ أصبح لدينا من المثقفين من لا يحملون من العروبة إلا الاسم ولا من تراثها إلا الرسم، مرجعيتهم فيما يكتبونه وما يقولونه هم المستشرق

لماذا نحن العرب

دون غيرنا؟

ون. ولا يخفى على أحد حجم التعاون الذي كان بين حركات الاستشراق والصهيونية التي تغلغلت في داخلها، وهم الذين ينسب إليهم طرح فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين على انجلترا في مؤتمر لندن المنعقد عام 1907. وكان لهم الدور البالغ في التشكيك في ثوابت أمتنا، إضافة إلى تزييف ماضيها واختزال كل إسهاماتها الحضارية على مر الأزمان، فضلاً عما قاموا به من بث الدسائس للتفرقة بين العرب، بحجة توجيه النصح وإسداء المشورة.

إن أمتنا العربية قد تمرض ويعتريها الضعف، لكنها لن تموت لأن الله أراد لها البقاء، لكن هذا الخلود رهن بنا وبقدرتنا على أن نميز بين الصالح والطالح، بين ما ينفعنا وما يضرنا، وبثقتنا فيما لدينا من فكر وحضارة وتراث لا تزيده طفرات التحديث إلا قوة وأصالة. أقول هذا وأنا أحد الذين تلقوا علموهم في الغرب، وعندما رأيتهم من الداخل زادت ثقتي فيما نملكه، لكننا لا نشعر أحياناً بقيمته.