فواز العلمي

وسط استغراب دول العالم ودهشة شعوب المعمورة في تعاملنا السلبي والخاطئ مع أدوات التقنية ووسائل العولمة، يقف العالم العربي أمام أكوام من أجهزة المايكروفون، ليصدح بنشر فضائح نزاعاتنا الداخلية

بعد 130 عاماً على ولادته العسيرة، ومنذ أن طوره المخترع الأمريكي quot;ألكسندر جراهام بلquot; في عام 1876، بدأ المصدح (المايكروفون) عمله في تحويل الأصوات إلى تيار كهربائي من خلال قرص معدني يدعى (الحجاب). فعندما تصطدم الموجات الصوتية بالحجاب تدفعه إلى الاهتزاز، وفقًا لقوتها وترددها. ولتحويل هذه الترددات إلى صوت قوي، يتم استخدام مكبراً يدعى (المجهار) الذي يقوم بتحويل الترددات إلى موجات صوتية قوية تطلق في الهواء لتلتقطها الآذان.
وسط استغراب دول العالم ودهشة شعوب المعمورة في تعاملنا السلبي والخاطئ مع أدوات التقنية ووسائل العولمة، يقف العالم العربي أمام أكوام من أجهزة المايكروفون، ليصدح بنشر فضائح نزاعاتنا الداخلية والإعلان عن اعتزاز فصائلنا بعمق خلافاتها وتباعد أهدافها المصيرية.
وعلى الرغم من أن غالبية الشعوب العربية تعتبر بلا منازع أكثر شعوب العالم تحدثاً وأقلّها أفعالاً، وبالرغم من أن معظمها يعتبر من أكثر دول العالم تفاخراً أمام أجهزة المايكروفون بمقدار تدفق عواطفها على ما فات، وذرف دموعها على ما مات، إلا أنه لا يوجد مشروع استثمار عربي واحداً يمت لصناعة أجهزة المايكروفون وقطع غيارها.
قد تكون هذه الظاهرة أحد أهم أسباب سعي الشعوب العربية وشغفها المنقطع النظير على اقتناء أكبر عدد من أجهزة المايكروفون المستوردة خوفاً من المقاطعة الغربية لأدوات الحروب الكلامية والشعارات النارية. وقد يكون ذلك حرصاً منها على ترسيخ أدبيات الرفض العربي من خلال تجميع أكوام أجهزة المايكروفون أمام خطباء المؤتمرات الصحفية، لتكبير أصوات نزاعاتهم أمام حشود الطرشان أو تعظيم قوة شقاقهم أمام فصائل القطعان.
من حقنا أن نأسف لحال الوطن العربي الكبير الذي يضم 350 مليون عربي، ويزيد عن عدد يهود العالم، الذي يساوي 14 مليوناً، بحوالي 25 ضعفاً، ومع ذلك تتفوق إسرائيل بقوتها، التي غدت رابع أكبر قوة عسكرية في العالم، على جميع الدول العربية.
ومن حقنا أن نتألم من تشتت مقومات الإقليم العربي، الذي تبلغ مساحته 14 مليون كمsup2;، ليكون أكبر من أغلب أقاليم العالم، فوطننا أكبر من أمريكا التي تبلغ مساحتها 10 ملايين كمsup2;، وأكبر من الصين التي تبلغ مساحتها 9.5 ملايين كمsup2;.
ومن حقنا أن نشفق على مصير شراكاتنا الاقتصادية العربية وتحالفاتنا التجارية الإقليمية، لجهلنا بمزايا إقليمنا الموحد، المختلف عن أقاليم الأرض قاطبة، لتميزه بأنه يضم أكثر شعوب العالم تجانساً بفضل ديننا الأوحد ولغتنا الواحدة ومصيرنا المشترك الموحد.
في الهند توجد مئات الديانات وفي الصين آلاف اللغات، وفي أمريكا وكندا وأوروبا وروسيا واليابان وأفريقيا واستراليا ونيوزيلندا توجد عشرات اللغات والمذاهب والملل. حتى إسرائيل الدويلة الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها 1% من مساحة العالم العربي ولا يزيد عدد سكانها عن 2% من عدد الشعوب العربية، تحتوي على 27 جنسية مختلفة و 5 أجناس بشرية متضاربة وتتحدث بأربع لغات متفاوتة. ومع ذلك مازالت شعوبنا العربية ذات الدين الأوحد والمجتمع الواحد واللغة الواحدة، تقف متفرجة، متصارعة، وحائرة بين اليمين واليسار، تختال وفودها في أروقة المنظمات العالمية آحاداً وأفرادا، يفرقها اقتصادها المتناثر وتجارتها البينية المتهالكة، إلى جانب تشتت سياساتها الخارجية المخجلة.
من حقنا أن نذرف الدموع على الشعوب العربية التي تتمادى بهضم حقوقها وتتفانى باستنزاف مقوماتها وتسعى إلى التخلي عن مبادىء (السيادة) على أوطانها بمحض إرادتها. قد تكون كلمة (السيادة) بحد ذاتها نعمة لا نستحقها، بل قد تكون عبئاً علينا، باختلاف المايكروفون، لكونها محفوفة بمخاطر المسؤولية وبعيدة كل البعد عن نوايا مجتمعاتنا الاتكالية.
بعض الدول العربية فقدت كرامة (السيادة) لأن شعوبها تسعى زحفاً على بطونها باتجاه كل من يطعمها من أراضيه ويكسوها من مصانعه ويشفيها من أدويته، وبعضها خسرت عزة (السيادة) لأن وجهاءها أفرطوا في الانحناء أمام كل من يهين مقاماتهم ويستبيح عقولهم ويتهاون بقدراتهم، وبعضها أخلت بمعنى (السيادة) لانشغال فرقائها بتصفية أقرانهم أمام المايكروفون وفض قضاياهم عنوةً، عوضاً عن توحيد قواهم والدفاع عن أوطانهم عزةً وفخراً.
دولة فلسطين التي كافح العالم العربي على مدى نصف قرن من الزمن لإنشائها، انقسمت فصائلها أمام المايكرفون قبل استحقاق (السيادة) المرتقبة إلى حكومتين متصارعتين على زعامتها. ودولة لبنان التي خاضت أحزابها عبر العقود حروباً طاحنة في الداخل والخارج من أجل السيطرة على شوارعها وسهولها وجبالها، تفاقمت حدة الشقاق بين أحزابها أمام المايكروفون ليخسر أبناؤها (السيادة) المطلقة على أراضيها. ودولة العراق التي تنفست الصعداء بعد تحقيق حريتها، أهدرت فرص تحقيق (السيادة) لمواطنيها أمام المايكروفون وأهلكت جلّ مواردها ومكتسباتها. ودولة السودان التي صنفّت بسّلة الغذاء العربي فقدت سيطرة (السيادة) على إقليم دارفورها أمام المايكروفون، فاستشرت فيها المجاعة التي شرّدت وقتلت الملايين على أراضيها. ودولة الصومال التي اشتهرت بموقعها الجغرافي الاستراتيجي كبوابة محصنة لشعوب وخيرات أفريقيا، خسرت مقومات (السيادة) على وطنها لانهماك أبنائها وتهافتهم أمام المايكروفون للتفاخر بنجاحاتهم في قرصنة بحارهم واغتصاب خيرات مستقبلهم.
لعلنا نقتنع بأن (السيادة) على أوطاننا لا تتحقق من وراء المايكروفون.