صالح عبدالرحمن المانع


هل تعاني الدولة الشرق أوسطية من أشكال في التعامل بين القلب والأطراف، وهل تمثل هذه الأطراف تحديا لكيان الدولة وبقائها خاصة في الدول الضعيفة، أم أن مثل هذا التحدي ليس إلا تحديا مؤقتا سيزول بزوال الأسباب التي دعت إلى ضعف الدولة الشرق أوسطية في المقام الأول.
طيلة قرن كامل في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، كان ضعف الدولة العثمانية وتكالب الأعداء عليها بغرض تحطيمها وتفتيت الكيانات المؤلفة لها، يسيطر على أذهان الباحثين والدارسين. كانت الإشكالية تكمن في إعادة بناء الدولة وتحصينها ضد أعدائها من الخارج حتى تكون قوية وقادرة على الدفاع عن حياتها أمام التحديات الخارجية التي تهدد أمنها عبر حدودها المترامية الأطراف. وكان الهاجس الرئيسي هو بناء مؤسسات دولة قوية بعد زوال الاستعمار عن هذه الأوطان، وبالتالي بناء مؤسسات عسكرية، ونشر التعليم وغيره من معالم مؤسسة السلطة الوطنية في عدد من أقطار الشرق الأوسط.
غير أن الزيادة الهائلة في أعداد المواليد والسكان، والأعباء التي صاحبت مثل هذه الزيادة، جعلت الدولة غير قادرة على مواجهة التحديات الجديدة التي تتطلبها الأجيال الشابه.
وزاد من هذا الإشكال جنوح العديد من هؤلاء الشباب وغيرهم من رجال الأعمال إلى الاتكاء على الدولة لتلبية احتياجاتهم المتواصلة، مثل الحصول على الأعمال والوظائف وطلب الخدمات المختلفة. ولم تكن قوى السوق قوية بحيث تساعد هذه الدول الحديثة على الوفاء باحتياجات مواطنيها. بمعنى آخر لم يكن لدى طبقة رجال الأعمال ما يسمى بالمسؤولية الاجتماعية تجاه المجتمعات التي يعملون بها، في الوقت نفسه الذي حاول فيها هؤلاء الرجال الحصول على غنائم الدولة الشرق أوسطية، دون المساعدة في تمويلها عبر الضرائب المباشرة وغير المباشرة، مثلما يفعل نظراؤهم في الدول الغربية.
هذا الوضع جعل هذه الطبقة موازية لكيان الدولة الشرق أوسطية تقتات على معوناتها ودعمها، ولكنها لم تتخل عن قدرتها السريعة في الحركة خارج حدودها متى ما شعرت بزيادة الضغوط عليها داخل تلك الحدود. التاجر الشرقي الجديد أصبح شبيها بشقيقه التاجر الشرقي القديم، يحاول أن يغتنم الفرص السانحة، ولكن متى ما تقلصت تلك الفرص فإنه يهيم في الأرض ويسيح إلى مناطق أكثر جذبا لتجارته واستثماراته، وبهذا لم يكن هذا التاجر يشعر بوطنية، أو التزام اجتماعي أو شعبي لمواطنيه.
الإشكالية الأخرى هي أن الشعور بضعف المسؤولية لم يعد مقتصرا على الطبقة التجارية، بل شاركه فيها طبقات اجتماعية مختلفة، سواء في القلب أو في الأطراف.
مثل هذا الوضع تمثل في الحالة الصومالية، حيث سقطت الدولة المركزية منذ بداية التسعينات، ولم تنجح الانتماءات الثانوية في درء العنف أو وقف نشوء حركات انفصال خاصة في المناطق الشمالية من البلاد. وبدلا مما يسمى بحماية الدولة وأمنها وحدودها، غدا الإنسان في هذه البلدان يحاول حماية نفسه وأهله وماله بأي طريقة ممكنة. وعلى هذا المنوال وبعد أشهر قليلة، في شهر يناير القادم ستكون هناك انتخابات جديدة في السودان يمكن أن ينتج عنها انفصال الجنوب عن الشمال. وقد يصحب هذا الانفصال حرب أهلية شاملة لتقاسم مغانم النفط في (ابيي) على الحدود التي ستكون قائمة بين القلب والطرف.
وفي العراق اليوم هناك وضع مشابه، فالدولة المركزية دولة هشة أضعفها الاحتلال أو أضعفتها الطبقة الحاكمة في البلاد، لدرجة عدم مقدرة هذه الطبقة على تكوين حكومة وحدة وطنية، إلا بتقديم تنازلات هائلة للطرف الكردي في الشمال الذي يسير منذ عام 1991م نحو الانفصال عن القلب.
في لبنان كان اللبنانيون يفخرون بقوتهم في ضعفهم، فبسبب ضعفهم كانت الدول الغربية تتنافس على حمايتهم، أو على الأقل حماية أقليات معينة منهم. واستمرت هذه اللعبة لأكثر من قرن. غير أن الحروب الأهلية التي عصفت بها، والمحاولات الخيرة التي قامت بها الدول العربية لحقن دماء اللبنانيين لم تنجح في إقناع هذا الشعب المتعلم، أو الأكثر تعليما في العالم العربي، إلى أن يجنح إلى الاعتدال والتعايش السلمي بين فئاته المختلفة. وحل في لبنان ما يسمى بالاحتقان المبرمج محل التعايش السلمي الضروري لدعم حركة التنمية والتطور في البلاد.
هذا التجاذب بين القلب والأطراف في بلدان سمتها الرئيسة ضعف الدولة المركزية فيه، تزامن مع دينامية أخرى حاولت فيها الأطراف أولا التأثير على المركز أو القلب عبر الانخراط في صفوف المؤسسات التحديثية في البلاد، مثل القوات المسلحة، وغيرها من مؤسسات الدولة الحديثة (مقولة الدكتور غسان سلامة). غير أن هذا التأثير قد تطور بفعل ديناميات ديموغرافية إلى محاولة السيطرة أو الهيمنة على المركز، بفعل الهجرة المكثفة إلى المركز والعواصم. وكذلك بفعل بناء مؤسسات عسكرية ومليشيات خاضعة لمشيئة القبيلة أو الطائفة، كي تضارع مؤسسات الدولة الحديثة وجيوشها.
وأصبح التأثير القبلي أو الطائفي يتمايز ويؤثر في آن واحد عبر مؤسسات الدولة الرسمية، أو عبر المؤسسات الموازية لها. وهكذا دخلت الدولة الشرق أوسطية في تهديد عميق لكيانها وجوهرها، ليس من خارج حدودها كما كان عليه الحال في الماضي، بل من داخل حدودها هذه المرة.
وكأني بأنموذج الدكتور غسان سلامة، والذي يقول بغزو الريف للمدينة عبر المؤسسات الرسمية للدولة، قد أعاد لنفسه برنامجا مستقلا موازيا لبرامج الدولة ومؤسساتها ولكنه موجه لفئة معينة من السكان، اتخذوا من القبيلة أو الطائفة ملاذا أو متنفسا لتطلعاتهم في الاستحواذ على السلطة. وبعدما سمح كيان الدولة الضعيف أصلا في هذه البلدان لمثل هذا التطور أن يحدث، فإن البيئة المحيطة سواء من دول الجوار أو غيرها من الدول ذات المصالح، قد ساهمت بشكل فعال في المحاولات المستمرة لتفتيت الدولة الشرق أوسطية الحديثة وإضعافها.