أشرف إحسان فقيه

لا شيء يثير الاستفزاز أكثر من اللطميات التي يقيمها العرب كل سنة عند الإعلان عن الفائزين بجوائز نوبل. في الغالب وطوال المواسم الفائتة فإن الجمهور ووسائل الإعلام كانت تتحمس وتعقد الآمال العريضة على فرع الجائزة للأدب بالذات، في اعتراف ضمني بأنه quot;لا يكلف الله نفساً إلا وسعهاquot;.. وفي إقرار ضمني بأن العربي لو كان سيقدم شيئاً ذا قيمة للبشرية، وكانت لجنة تحكيم نوبل ستعترف به، فإن ذلك سيكون حصرياً وقصراً عبر بوابة الأدب. يظل العربي وفق هذه الرؤية وكما قرر (عبدالله القصيمي) قبل عقود، محض quot;ظاهرة صوتيةquot;.. وإن كان الأدب في الواقع نشاطاً إبداعياً باهراً ومنتجاً حضارياً بامتياز.
مع ذلك.. ومنذ ١٩٨٨.. تستمر لجنة نوبل quot;الشريرةquot; في صفعنا على وجوهنا وإهانة رموزنا الأدبية كل سنة. لم يفز عربي بالجائزة منذ ٢٢ عاماً. ومنذ ذلك الوقت يتعالى العويل: متى يفوز أديب عربي بنوبل؟
لكن الملاحظة المدهشة أنه وفي الفترة الأخيرة فقد تمدد التساؤل واستعرض ليطال فروع الجائزة الأخرى: في الاقتصاد والطب والكيمياء أيضاً. وصار الإعلام العربي والمراقبون العرب يتساءلون وبكل جرأة: quot;ولماذا لا يفوز عربي بنوبلquot;.. في الفيزياء مثلاً؟! وهذا تساؤل جريء جداً.. أو ساذج جداً. تساؤل يضع صاحبه في خانة المتفائلين الكبار.. أو المكابرين الكبار!
طبعاً فهناك مثال (أحمد زويل) بكل نصاعته وجماله. لكن الكل يعرف أن زويل هو في النهاية مواطن أميركي ذو أصل مصري. وأنه مقيم في أميركا.. درس هناك ويعمل هناك منذ عشرات السنين. والأبحاث التي أجراها وقت كان أستاذاً بمعهد (كال تِك) هي التي قادته لمجد نوبل. هذه السيرة الذاتية المختصرة لعالمنا العربي تحمل في طياتها الإجابة على كل التساؤلات التي يطرحها هذا المقال.. وفي مقدمها التساؤل: لماذا تعتبر مطالبة العرب المستمرة بجوائز نوبل مجرد نكتة؟!
نوبل.. بكل ما تمثله من رمزية الاحتفاء بالمنجز الإبداعي في أرقى صوره.. هي في النهاية تكريس لعظمة الفكر الحر، والجهد البحثي الحر. جائزة نوبل ليست موجهة لأشخاص الفائزين بها بقدر ما هي موجهة للمنظومات الاجتماعية والفكرية التي أفرزتهم ووجهت إبداعاتهم، ثم نشرتها وسوَّقتها ليتغير وجه الحضارة وفقاً لذلك كله. وفي حالات أخرى لكنها موجودة، فإن جائزة نوبل كانت بمثابة وصمة العار في جباه الأنظمة الشمولية أو الاستبدادية التي خنقت الصوت الإبداعي وأصرت على الاستئثار به وبما يمثله (بوريس باسترناك وليو جياوباو) كمثال.. وفي حالة ثالثة نادرة فإن المبدع (مثلما فعل سارتر) قد رفض نوبل وردّها ليثبت موقفه السياسي والفكري وليؤكد على استفراده واستقلاليته.
في كل تلك الأمثلة فإن منح الجائزة لم يكن تكريساً للقيمة الفردية. إن الفائز بنوبل هو نتاج لمجتمعه العلمي والفكري.. بآلياته الاقتصادية والاجتماعية المحرضة على الإبداع والتميز والتفكير quot;خارج الصندوقquot;.. وفي تقديم حلول ورؤى فذة.
أحياناً نتساءل: لماذا لا يفوز أحدهم بالجائزة إلا وقد بلغ من العمر عتياً.. وبعد سنين وسنين من ظهور فكرته أو ابتكاره الإبداعي. والإجابة هي في الأسطر أعلاه. نوبل تكرم الشخص ثانياً.. وتكرم المنظومة الإبداعية أولاً.
والآن فلنُسقط هذا التصور بأسره على حالتنا العربية. نحن دائماً نلوم المؤسسات الحكومية: الجامعات ومعاهد الأبحاث التي ترعاها الحكومة. نلوم أعضاء هيئات التدريس الذين هم في النهاية موظفون حكوميون محكومون بميزانيات البحث العلمي التي لا تتجاوز الواحد بالمائة من موازنة أي حكومة عربية. إننا نلوم quot;الحكومةquot; على غيابنا عن محفل نوبل. لكن الإبداع ليس فعلاً حكومياً حصراً. إن الاقتصاد المعرفي، حقوق الإنسان وحريته في التفكير والطرح والسباحة عكس التيار، ونشوء المجتمعات المتحضرة غير المتصادمة مع قيم التفكير والتعددية والانفتاح على كل احتمالات الحل ليست مسؤولية الحكومات وحدها. إنها القيم التي تعرف الأمم المتحضرة.. والأمم المتحضرة هي التي يفوز أفرادها بنوبل.. في الغالب.