محمد الحمادي

على مدى خمسة وستين عاماً وإسرائيل تتسبب في قلق وصداع دائمين لدول وشعوب المنطقة العربية. ومن الواضح أن إسرائيل كدولة تتجه يوماً بعد يوم نحو التطرف العنصري والعنف الثقافي تجاه الآخر... وإذا ما نجحت في ممارسة هذا التطرف والعنف على الفلسطينيين، فإنها ستقوم بتصديره للدول من حولها وهذا ما لا يمكن قبوله. وإصرار إسرائيل الأخير على وضع شرط الاعتراف بيهوديتها لاستمرار مفاوضات السلام، ما هو إلا عمل لعرقلة عملية السلام وقطع الطريق أمام مفاوضات حق العودة اللاجئين.

لم نسمع عن دولة في العالم تطلب الاعتراف بها على أساس الدين الذي تدين به أو على أساس أيديولوجيتها، لأن أبسط شيء يمكن يؤديه ذلك أنه سيخلق فوضى في العلاقات الدولية... كما أن وجود دولة يهودية يعني أنها ستطبق الشريعة اليهودية والتلمودية على كل سكانها حتى العلمانيين منهم، ولأنها دولة عبريةrlm;،rlm; يعني أن حق المواطنة فيها مقصور على من يتحدثون العبرية وينتسبون تاريخياً إلى الثقافة العبري. فضلًا عن أن الموافقة على هذه الدولة سيؤدي إلى إلغاء قرار الأمم المتحدة بحق عودة الفلسطينيين إلى بيوتهم وبلادهم وأرضهم ومصادرة حق البقاء لنحو ربع سكان إسرائيل من المواطنين العرب الخاضعين للسيادة الإسرائيليةrlm;.rlm;


ظلت إسرائيل لعقود طويلة تتباهى بعلمانيتها وquot;ديمقراطيتهاquot;، وهي لم تكن لا هذا ولا ذاك، واليوم تكشف عن حقيقتها العنصرية وهي تطالب العالم بالاعتراف بها كدولة دينية يهودية لإتباع ديانة واحدة لتنسف ادعاءاتها وادعاءات كل من كان يدافع عنها وعن جمالها الديمقراطي والعلماني التعددي لتؤكد أنها منذ يومها الأول لا تقبل أن يكون فيها غير أتباعها وأنها لا تستطيع أن تقبل الآخر، وأنها دولة تحب الانغلاق على نفسها، وإنها الدولة التي لم تستطع أن تتحرر من عقدة quot;شعب الله المختارquot;، فتريد أن تطرد كل من هو غير مختار من على أرضها.

وتأتي هذه الخطوة الإسرائيلية لتضع المنطقة على فوهة بركان سيكون انفجاره قاتلًا بشكل كبير، فوجود دولة ثيوقراطية في المنطقة يعني تحويل المنطقة إلى دول تدعي الحكم بموجب الحق الإلهي! وهذا النوع أو الأنظمة كان موجوداً في أوروبا في العصور الوسطى على شكل دول دينية تميزت بالتعصب الديني، وكبت الحريات السياسية والاجتماعية والعلمية ونتج عن ذلك مجتمعات متخلفة أطلق على العصر بـ quot;عصر الظلماتquot;.

لذا فإن الاعتراف بيهودية إسرائيل ليست مسألة فلسطينية ولا تخص الفلسطينيين أنفسهم، بل تخص جميع دول المنطقة العربية، بل الإقليم بأسره. فخلق دولة ثيوقراطية في المنطقة يعني تغيير تركيبة المنطقة ويعني وضع المنطقة على طريق جديدة وأمام تحديات إضافية أخطر بكثير من التحديات الحالية.

على دول المنطقة أن لا تسمح بقيام دولة على أساس ديني عنصري وعليها أن تقاوم ذلك بشتى الطرق، فقيام دولة يهودية يعني قيام دولة إسلامية، ومن ثم قيام دولة مسيحية ثم بوذية ثم بهائية وأخرى قاديانية وغيرها... وقيام دولة دينية يعني بالضرورة أن يحكمها أناس متشددون. وحكم البلاد من المتشددين يعني بالضرورة وقوع مشكلات وخلافات وصراعات، بل واندلاع حروب لها بداية وليس نهاية لها.

أكثر ما يثير الاستغراب والاندهاش في المطالبة الإسرائيلية بالاعتراف بها كدولة يهودية هو التأييد الغربي الأوروبي والأميركي لهذه المطالبة، بل وضغط الولايات المتحدة للقبول بهذا المطلب الرجعي والعنصري... ففي حين يفترض أن تدعم الدول الغربية قيام دولة المؤسسات والقانون وتشجع الأنظمة الديمقراطية، التي تعمل من أجل تحقيقها بعض دول المنطقة نفاجأ بهذا الدعم غير المبرر للرغبة الإسرائيلية الاعتراف بها كدولة يهودية. والغرب يدرك أن إسرائيل بمطالبتها لا تريد فقط إقامة دولة عنصرية، بل تهدف إلى طرد كل العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، وتريد أن يقتصر الوجود البشري على الأرض التي تحكمها للإسرائيليين فقط.

في الوقت الذي يعمل فيه المثقفون العرب وقادة الرأي المتنورون وحتى بعض الحكومات على الاستفادة من التجربة الغربية في مجال دولة المؤسسات والقانون وفي مجال الحريات العامة ومسائل العدل والمساواة بين المواطنين. تظهر هذه الدعوة الإسرائيلية المشبوهة وتتبعها دعم غربي مثير للجدل وغير متوقع.. فأول من كان يفترض أن يرفض هذا الاقتراح هي الدول الغربية التي كانت دائماً تتغنى بديمقراطية وعلمانية وتعددية إسرائيل وتميزها بهذين العنصرين عن الدول العربية من حولها واليوم تغير موقفها 180 درجة لتنسى كل هذه الادعاءات وتؤيد إسرائيل في إقامة دولتها اليهودية في قلب الشرق الأوسط!؟

إذا كان الغرب يريدون قيام دولة ثيوقراطية فلماذا لا تمنح إسرائيل أرضاً جديدة تقيم عليها أحلامها العنصرية التي لا تتناسب وتركيبة منطقة الشرق الأوسط المعروفة منذ آلاف السنيين أن سكانها من عرب وغير عرب ومن مسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم من أصحاب الديانات والمعتقدات يعيشون في دولهم مع بعضهم البعض بسلام وحب دون أن يطالب أي منهم بدولة قائمة على أساس الأيديولوجية والمعتقدات الدينية! لذا فإننا نعتقد أن ما تسعى إليه إسرائيل هو خطر داهم على المنطقة بأسرها. وخطوة يجب إيقافها. وعلى الولايات المتحدة والغرب أن يقفوا ضد هذه الرغبة الإسرائيلية التي تضع بذور حروب طاحنة في المنطقة وربما في العالم. كما أن هذه الخطوة في هذا الجزء من العالم لن تخدم إلا المتطرفين وستزيدهم تطرفاً وتعطيهم مبررا للمطالبة بدولة دينية على غرار الدولة اليهودية. لتضيع جهود سنوات من العمل على محاربة التطرف!

يبدو أن بعض العرب تعودوا على quot;المصائبquot;، التي تأتي من إسرائيل فأصبحت لديهم قابلية تلقائية لأية أفكار إسرائيلية حتى وإنْ كانت غير منطقية، وحتى إنْ كانت مؤذية للمنطقة ومستقبلها وأمنها واستقرارها كفكرة الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل! وعلى هؤلاء أن يغيروا تفكيرهم لأن إسرائيل لا يقنعها شيء. أما الحكومة الإسرائيلية الحالية، فمن الواضح أنها لا تريد السلام بل تريد ابتلاع ما تبقى من أراضي الضفة الغربية.