خلف الحربي


يحلو لكثير من الناس تقديم تفسيرات جاهزة للمأساة التي يمر بها الإعلام الكويتي هذه الأيام، بينما يكتفي آخرون بطرح السؤال القلق: كيف تحولت حرية التعبير إلى laquo;حربة التعييرraquo; حتى أصبح شتم عباد الله والتشكيك في انتماءاتهم مجرد وجهة نظر؟! وهو سؤال محير فعلاً بعد أن تحول الإعلام الكويتي الذي كان ينطلق من رؤية بعيدة المدى، ويحمل بين جنباته مشروعا تنويريا رائدا يصل إشعاعه إلى أبعد قرية في الوطن العربي إلى إعلام ضيق الأفق، ويحمل بين جنباته مشروعا انعزاليا متوترا لا همّ له سوى فرز وتصنيف بيوت (الفريج) الواحد.

ومع تقديري لكل هذه التفسيرات الجاهزة التي تصدر من داخل الكويت وخارجها، وإيماني بوجاهة بعضها إلا أنني لا أميل غالبا إلى محاولات التشخيص والتنقيب عن الأطراف الخفية، ولا أحب الكتابات التي تقدم النصح والموعظة خصوصا في قضايا الإعلام، لأن تفسيري الوحيد والبدائي والبسيط لهذه المسألة هو أن نوايا الكثير من القائمين على العمل الإعلامي الكويتي قد تغيرت، فارتد سلاح الإعلام الذي اشتهر الكويتيون بمهارة التعامل معه على أهل البلد ليمزق صفوفهم، وأصبح يتطرق إلى صغائر مخجلة لم يكن أكثر المتشائمين يتوقع أنها يمكن أن تثار في بلد مثل الكويت.

هذه الحالة الإعلامية المحتقنة تحيلني دائما إلى قصة كويتية قديمة حين كانت نوايا الإعلاميين والمثقفين أكثر بياضا، وهي قصة حدثت قبل تأسيس وسائل الإعلام الكويتية الحديثة... أي قبل مجلة العربي، وقبل إذاعة الكويت التي كان لها تأثيرها العظيم في مختلف أنحاء المنطقة، وقبل المسرح الكويتي الفريد من نوعه في محيطه الخليجي, وهي باختصار قصة كتاب مهم جمعه الشاعر الكويتي الراحل خالد الفرج واحتوى على مجموعة من أشهر القصائد النبطية التي كانت معرضة حينها للاندثار، حيث يعتبر كتاب (ديوان النبطndash; مجموعة الشعر العامي في نجد) نقطة تحول أساسية في مسيرة تدوين الشعر العامي في الخليج والجزيرة العربية، وقد أصدر الفرج الجزء الأول منه ثم أوقف هذا المشروع الرائد بسبب تطورات هذه القصة المثيرة.

بدأ الفرج مشروعه هذا بدعم كبير من عبدالله السليمان وزير المالية السعودي في عهد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، فقد أحضر السليمان الرواة الذين يحفظون القصائد وشجع الفرج على جمعها، وتكفل بتكاليف الطباعة، يومها لم يتهم أحد الفرج بأنه مزدوج الولاء لأن النوايا يومها كانت طيبة، وكان الجميع يدركون أن الفرج ابن الكويت البار، وهو من أقدم المدرسين في مدرسة المباركية وشاعر ومثقف له مكانته المرموقة في بلاده، وقد كان الكويتيون يعرفون أيضا أنه تولى سكرتارية بلدية البحرين، ثم تولى رئاسة بلدية القطيف، ولكن كل ذلك لم يمنعهم من إقامة احتفال حاشد حين عاد إلى الكويت بعد غياب طويل، ولو كانت النوايا مثلما هي اليوم لما اعتبر الفرج مزدوجا فقط، بل (مخومس) لأنه يستحق الجنسيات السعودية والبحرينية والهندية والبريطانية إضافة إلى جنسيته الكويتية.

ولم يتخوف أحد في الكويت من كون ما يقوم به الفرج هو لون من ألوان تعزيز ثقافة البادية، لأن الجميع يدركون أن الفرج من حضر الكويت وابن عائلة ثرية ولها ثقلها، وهو في الوقت ذاته ينتمي إلى قبيلة الدواسر الذائعة الصيت، وهو شديد الصلة بقبيلته خصوصا خلال أحداث 1927 في البحرين، كانت النوايا يومها أكثر بياضا من الدخول في هذه القصص الصغيرة، وكان الناس يستحون من فحص نوايا بعضهم بعضا، ولم يكونوا يرون فارقا مهما بين البدوي والحضري باستثناء نمط العيش، واليوم رغم اختفاء الفارق في نمط العيش فإن بعض الإعلاميين الكويتيين يكادون يتفجرون حماسة لبناء الفوارق الوهمية بين أبناء البلد الواحد.

طبع الفرج الجزء الأول من هذا الكتاب في سورية، ولكن مجمع اللغة العربية عبر عن امتعاضه من هذا الكتاب، وأبدى تخوفه الشديد من خطورة طباعة الكتب التي تحتوي أشعارا عامية بصورة قد تلحق الضرر باللغة العربية الفصحى، فلم ينتفض الفرج ضد هذه الولاية الثقافية الجائرة، ولم يتهم المجمع بمحاولة تهميش الثقافة الشعبية في الخليج، ولم يحاول أبدا شحذ همم الكويتيين وأبناء الخليج للرد على بيان مجمع اللغة العربية، بل أخذ الأمر بنية طيبة وتوقف عن المضي قدما في مشروعه الرائد، واعتذر للوزير السليمان عن إعداد بقية أجزاء هذا الكتاب الذي لولا صدور الجزء الأول منه لضاعت العديد من روائع التراث في غياهب النسيان.

قد يكون التعويل على النوايا تفسيرا سطحيا في بعض الأحيان... ولكن في دنيا الإعلام فإن نوايا أهل المهنة هي التي تغير كل شيء، فالنية مطية... والنوايا العمياء غالبا ما تقود أهلها إلى متاهات تاريخية لا يمكن الخروج منها بسهولة.