بشير موسى نافع

إن كان ثمة من نتيجة يمكن استخلاصها من وثائق الحرب في العراق، التي نشرها موقع ويكيليكس، إلى جانب الجزيرة والغارديان والنيويورك تايمز، فهي أن لعنة العراق لا تزال مستمرة، وأن هذه اللعنة ستظل تطارد مرتكبي جريمة الحرب، ومن شجعوا وتعاونوا على إشعالها، لسنوات طويلة قادمة. صحيح أن مصدر أغلب الوثائق هو جنود وضباط الجيش الامريكي على مستوى الوحدات العاملة في حقل العمليات، أو في دوائر الاستخبارات السفلى، وليس القيادات وأقسام التحليل العليا. ولكن مادة الحرب الأولية، المادة الخام إن صح التعبير، قد تكون أصدق من المادة التي خضعت لوجهات النظر السياسية وحسابات القادة ومسؤولي الأقسام الحريصين على مواقعهم. وصحيح أيضاً أن أغلب المادة التي تضمنتها الوثائق ليس جديداً بالضرورة، سيما من وجهة نظر العراقيين الذين اكتووا بنيران الغزو ومجازر ما بعد الاحتلال. ولكن هذه هي المرة الأولى التي يتوفر فيها للعراقيين وللرأي العام العالمي جانب من الحقيقة، موثق بأيدي المسؤولين الأوليين عن الحرب والاحتلال. وهذا بعض ما تقدمه هذه الوثائق لتصوراتنا للحرب والاحتلال، وللعراق الجديد الذي وعد به العراقيون.
لم يعد أحد يجادل اليوم بأن الحرب قامت على مسوغات حقيقية، كلاً أو جزءاً. يعرف مراقبو العراق ومؤرخوه أن ادعاءات أسلحة الدمار الشامل قد تم تزييفها على أعلى المستويات، وأن دول الغزو كانت تدرك أنه لم يكن للعراق من صلة بالإرهاب الدولي، لا من قريب ولا بعيد. كانت مبررات الحرب كذباً صريحاً من البداية. ولكن ما تكشفه أوراق العراق أن الكذب لم يتوقف عند مبررات الحرب ومحاولة اختراع مسوغات لها؛ فقد استمر المحتلون في الكذب طوال السنوات التالية، وحتى الآن. فما أن تكشفت حقيقة ادعاءات أسلحة الدمار الشامل، حتى بدأت آلة دعاية الحرب على جانبي الأطلسي في اختراع مسوغ جديد للحرب، وإقناع الرأي العام العالمي به، حتى إن لم يكن مقنعاً للعراقيين أنفسهم: أن الحرب شنت لدواع أخلاقية ودوافع ليبرالية عالمية، وأن جورج بوش الابن وتوني بلير وحلفاءهم في الدول الثانوية الأخرى، مثل أسبانيا وبولندا واستراليا، أخذوا على عاتقهم تخليص العراق من الحكم الديكتاتوري، وإقامة نظام ديمقراطي مزدهر في العراق الجديد. ما تقوله أوراق العراق انه حتى المسوغ البديل، الذي ظل توني بلير يدعيه حتى قبل أشهر قليلة في كتاب مذكراته الأخير، كان كذباً هو الآخر.
تحت راية مشروع الدمقرطة المدعاة تحول العراق منذ الشهور الأولى للاحتلال إلى مجزرة يومية، فعلاً لا رمزاً، مجزرة شاركت فيها قوات الاحتلال، قوات أمن وجيش الدولة العراقية الجديدة، وميليشيات القتل الإرهابية التي عاثت في البلاد فساداً. والمدهش أن آلة المجزرة ما زالت تدور، ربما بوتيرة أقل، وبنسب مختلفة لمسؤولية كل طرف عنها؛ ولكنها مستمرة على أية حال. وقد بتنا نعرف اليوم أن ادعاء إدارة الاحتلال ووزارات دفاع دوله طوال سبع سنوات أنها 'لا تقوم بإحصاء جثث الضحايا' كان كذباً هو الآخر؛ فقد أحصت التقارير الامريكية تعداد الضحايا العراقيين على الدوام، سواء أولئك الذين قتلوا على حواجز الجيش الامريكي، أو خلال الهجمات التي قامت بها وحدات هذا الجيش، التي لم تكترث دائماً بحياة العراقيين، أو حتى ضحايا الدولة العراقية الجديدة وانفجارات الميليشيات ومجموعات الاختطاف والقتل والقوى الإرهابية. وبالرغم من أن أرقام أعداد الضحايا التي تقدمها الوثائق أقل بكثير من تقديرات العراقيين أنفسهم، أو من تقديرات منظمات مراقبة الحرب المدنية، تظل هذه الأرقام هائلة بالتأكيد، وهي دليل واضح على حجم الجريمة التي ارتكبت بحق العراق والعراقيين والمشترك الإنساني.
بيد أن مشروع العراق الجديد أسس على كذب من نوع آخر، لا يقل خطورة وفداحة على مستقبل العراق وشعبه. فقوى الاحتلال كانت تدرك من البداية أنها لم تساعد في إقامة حكم عراقي ديمقراطي، لا على مستوى الحكام الجدد، ولا على صعيد مؤسسات الدولة الجديدة. راقبت قوات الاحتلال من البداية وغضت النظر عن انتشار الفساد وممارسات الاعتقال غير القانونية والتعذيب والقتل التي تقوم بها قوى الأمن ووحدات الجيش العراقي التي أشرف المحتلون على إقامتها وتدريبها. كما أدركت قوات الاحتلال ومسؤولوه أن رئيس الحكومة المالكي، آخر رؤساء الحكومات منذ بداية الاحتلال، والمفترض أنه تسلم مقاليد السلطة والبلاد أكثر استقلالاً واستقراراً، نسبياً على الأقل، حكم العراق بسياسة تمييز طائفية بشعة، وأن وحدات جيش عراقي خاصة أؤتمرت بأمره شخصياً، نفذت عمليات اعتقال مشبوهة، ربما أودت إلى تعذيب ومقتل المعتقلين. طبقاً لأوراق العراق، فإن أقل ما يمكن وصف رئيس الحكومة العراقية المنتهية ولايته أنه يقف في موضع المتهم بارتكاب جرائم ذات طابع سياسي وطائفي، وتبني سياسات تمييز طائفية على نطاق واسع. وهذا بعد سبع سنوات من وضع جذور الحكم 'الديمقراطي' في العراق الجديد.
وربما يعتقد البعض أن استباحة العراق من قبل بعض دول جواره تمت في غفلة من قوى الاحتلال وإدارته. ولكن الحقيقة لم تكن كذلك. فقد أدرك الامريكيون من البداية عمق دور إيران، مثلاً، في تسليح وتدريب وتوجيه الميليشيات الشيعية المختلفة، سواء تلك المتهمة بعمليات اغتيال وقتل على نطاق واسع، أو تلك التي ارتبطت بأحزاب شيعية سياسية. بعض من أهداف هذا الدور ارتبط بتعزيز قدرات القوى الشيعية السياسية في السيطرة على مقدرات البلاد، وبعض من تلك الأهداف تعلق بالصراع الموازي بين الإرادتين الامريكية والإيرانية في العراق. ولعل أكبر علامات الاستفهام التي تثيرها أوراق العراق أن القوى التي مدت لها طهران يد العون والمساعدة والتوجيه كانت في الآن نفسه الأطراف الرئيسية الحليفة لإدارة الاحتلال، وركائز الدولة الجديدة. أحد تفسيرات هذه العلاقة الغريبة ومتناقضة الأطراف أن الامريكيين والبريطانيين وجدوا أنفسهم في النهاية أمام وضع لا حيلة لهم إلا في قبوله والتظاهر في الرضا عنه، بعد أن اكتشفوا أن سنة العراق ثاروا في وجههم، وأن القوى الشيعية السياسية حليفة لإيران أولاً قبل أن تكون حليفة لهم. قد يكون هذا التفسير صحيحاً بالطبع؛ ولكن ثمة تفسيراً آخر لا يجب إسقاطه من الحسبان.
فبغض النظر عن حقيقة الدور الإيراني وعواقب صراع الإرادات الإيراني الامريكي في الساحة العراقية، فهناك من الأدلة ما يكفي للاستنتاج بأن السياسة المرجعية التي استند إليها بناء العراق الجديد تتلخص في أن هذا العراق ينبغي أن يظل منقسماً على نفسه، ضعيفاً ومتناحراً. ارتضى الامريكيون بسهولة لا تخفى، وربما شجعوا، إقامة دولة عراقية على أسس محاصصة طائفية وإثنية. وحتى عندما بدأت بوادر ملموسة على أن العراقيين يرغبون في إعادة بناء السياسة في بلادهم على أسس وطنية، ظل الامريكيون أقرب للتصور الطائفي الإثني منهم إلى الخيار الوطني. الهدف من العراق الجديد ليس الديمقراطية، ولا العلمنة، ولا التصور الليبرالي للحياة. وليس الهدف حتى السيطرة على بحيرة النفط والغاز الهائلة التي يطفو عليها العراق. الهدف، باختصار، هو استخدام الحرب لتوكيد الهيمنة الامريكية على الشأن العالمي، وإضعاف العراق، وإخراجه من موازين القوى لأطول فترة ممكنة. وما ان اتضح الإخفاق الكبير في توظيف الحرب لتوكيد الهيمنة المتفردة، لم يتبق إلا هدف إضعاف العراق وإشغاله بنفسه. وهذا هو التفسير الوحيد الممكن للدعم الامريكي، والصمت الأوروبي إزاء، محاولة المالكي العودة رئيساً للحكومة العراقية، بالرغم من خسارته الانتخابات التي أدارتها حكومته، وبالرغم من معرفة واشنطن التي لا يتطرق إليها الشك أن المالكي تعهد سياسة تمييز طائفي عمياء، وأن إدارته للعراق الجديد تحيط بها اتهامات جنائية من كل حدب وصوب.
بعد أن تجاوز تعداد ضحايا سنوات الحرب والاحتلال السبع، وبعشرات الأضعاف، كل ضحايا النظام السابق في عقوده الثلاثة، لم يعد من الممكن الدفاع عن العراق الجديد. في عراق ما قبل الغزو والاحتلال، كان العراقيون يخافون نظامهم الحاكم وسطوته. في عراق ما بعد الاحتلال، يخاف العراقيون حكومتهم، أجهزتهم الأمنية، جيشهم، ويخافون بعضهم البعض، السني من الشيعي، والعربي من الكردي، والمسيحي من الآخرين جميعاً. يخشى العراقيون المحتلين، ويخشون خروج الاحتلال، يخشون استباحة بلادهم من الجيران، ويرون في الجوار سنداً لهم، يخشون تذكر الماضي، القريب منه والبعيد، ويخشون المستقبل أكثر. وهذا، ربما، هو خلاصة العراق الجديد.
ما وراء ذلك كله، هناك دلالة أخرى يحملها هذا النشر غير المسبوق لمئات الآلاف من وثائق حرب العراق الامريكية. نحن نعرف على وجه اليقين أن الإمبراطوريات لا تقوم على العنف وحسب، بل وعلى الكذب أيضاً. كل الامبراطوريات تكذب، وتحرص على حراسة كذبها. عندما احتل البريطانيون العراق للمرة الأولى في أواخر الحرب العالمية الأولى، ادعوا هم أيضاً أنهم جاءوا لتخليص العراقيين من 'الاستبداد العثماني'. مشكلة الإمبراطوريات لا تبدأ من الكذب. مشكلة الإمبراطوريات تبدأ عندما تصبح عاجزة عن حراسة الكذب من الانكشاف.