رغيد الصلح

سوف ينقضي بعض الوقت قبل أن تهدأ الضجة التي أثارتها وثائق ldquo;ويكيليكسrdquo; حول العراق . بعض المتضررين من هذه الوثائق في بغداد قال إن هذه الوثائق لا تستحق الضجة التي أثارتها لأنها ليس فيها من جديد ولأن القسم الأكبر من المعلومات التي جاءت فيها معروفة ومتداولة منذ فترة طويلة . هذا صحيح . ولكن هناك فرق مهم بين أن يجري تداول هذه المعلومات كتكهنات وشائعات، وبين أن توضع في أيدي المجتمع الدولي كوثائق أمريكية رسمية ممهورة بأختام البنتاغون . وهناك فرق بين أن تنتشر هذه المعلومات على نطاق محدود بين العراقيين والعرب، وبين أن يطلع عليها العالم بأسره وأن تنشغل بها أهم المنابر الإعلامية والسياسية الدولية . فضلاً عن هذا وذاك، هناك فرق بين القول بأنها معلومات قديمة وصولاً إلى القول بأنها فقدت قيمتها مع تقادم الزمن وبأنه ليس هناك من موجب لاتخاذ أي تدبير أو رد فعل بشأنها، وبين القول بأنها قديمة ومعروفة في معرض استنكار السكوت عنها لفترة طويلة وإدانة امتناع أصحاب الأمر والقرار عن التحقيق فيها منذ أن خرجت إلى العلن ومنذ أن أصبحت قيد التداول .

لقد أثارت الوثائق ضجة كبرى لأنها وضعت كمية هائلة من المعلومات أمام المجتمع الدولي، وأثارت ضجة أكبر لأنها أثارت تساؤلات كثيرة حول قضايا تشغل المعنيين بالعلاقات الدولية وبشؤون الشرق الأوسط . بين هذه التساؤلات يصح التوقف عند سؤالين مهمين يتعلقان بالسياسة الخارجية الأمريكية . السؤال الأول، تثيره ردود الفعل الأمريكية الأولية القوية حول وثائق ldquo;ويكيليكسrdquo; . فقدت أدانت كل من هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، والناطق بلسان وزارة الدفاع الأمريكية تسريب الوثائق لأن كشفها لمعلومات سرية قد يهدد حياة الجنود الأمريكيين والعراقيين الذين يتعاونون معهم ويعملون في إمرتهم .

إن هذا الموقف يتناقض إلى حد بعيد مع مفهوم الشفافية الذي تعتبره واشنطن واحداً من الركائز الرئيسية للحكم الرشيد، ومعلماً مهماً من معالم التحول الديمقراطي في العالم، ومن التقدم في الولايات المتحدة . ولفرط حماسها للشفافية خاطبت هيلاري كلينتون، هي نفسها، الأمريكيين بقولها، ldquo;سوف أعمل على نشر كل شيء على الإنترنت ( . . .) أريدكم أن تتابعوا كل شيء يحصل داخل الحكومة كل لحظة حتى تملكوا كل المعلومات والمعطيات التي تمكنكم من مراقبة ومحاسبة السلطات والإدارات المعنيةrdquo; . لئن ظهر حرص كلينتون على الشفافية مطبوعاً بالوعود والالتزام بوضع الحقائق الحكومية أمام المواطنين، فإنه ظهر في تقارير رسمية أخرى مطبوعاً بالانتقادات الموجهة إلى الدول الأخرى لأنها لا تطبق الشفافية في تقاريرها ومناهجها . فقد جاء في تقرير نشره البتناغون خلال شهر أغسطس/ آب المنصرم بعنوان ldquo; التطورات العسكرية والأمنية في الصينrdquo;، انتقاد مباشر للصين لأنها تمتنع عن اطلاع الولايات المتحدة على معلومات كافية حول الخطط التي تتبعها من أجل تطوير قدراتها العسكرية .

لو أن الشفافية تمثل فعلاً قيمة رئيسية تستلهم منها الإدارات الأمريكية المعنية الخطط والقرارات، ولو أنها تؤثر ولو بقدر محدود من التأثير على ردود فعل هذه الإدارات على حدث مثل نشر وثائق ويكيليكس لكان من الأجدى أن يعمد أصحاب الأمر في واشنطن إلى تشكيل لجنة خاصة تملك صلاحيات قضائية واسعة للتحقيق في حرب العراق وفي ما جاء في الوثائق وفي غيرها من معلومات واتهامات . لقد أحيطت هذه الحرب منذ بوشر بالتحضير لها بكمية غير مسبوقة من الأكاذيب والمزاعم . هذا ما أثبته عدد وافر من الإداريين والعسكريين والاختصاصيين والخبراء الذين خدموا في إدارة بوش نفسها . من هؤلاء سكوت ماكليلان، الناطق بلسان البيت الأبيض الذي نشر كتاباً بعنوان، ldquo;ما الذي حدث داخل البيت الأبيض في ولاية بوش وثقافة التضليل في واشنطنrdquo; . علقت صحيفة ldquo;هيرالد تريبيون الدوليةrdquo; على هذا الكتاب بقولها، ldquo;أهم خدمة يؤديها الكتاب هي أنه كشف لنا حجم ثقافة التضليل التي روجها بوش وتشيني والآخرون حتى يسوقوا لدى الرأي العام الأمريكي مشروع حرب العراقrdquo; (30/05/08) . إذا كانت وزارتا الخارجية والدفاع في واشنطن على اقتناع حقيقي بأهمية الشفافية، فإنه من المفروض أن تجدا في نشر وثائق ldquo;ويكيليكسrdquo; فرصة لوضع حد لواحد من أعتى فصول التضليل في التاريخ الأمريكي والعالمي .

ما لم تفعله كلينتون وغيتس في واشنطن بصدد إجراء تحقيق في مضمون الوثائق، يعد به نوري المالكي، رئيس الوزراء المنتهية مدته في بغداد . إن المالكي يلوّح بإجراء تحقيق في الأمر . بل إنه يبدو وكأنه قد راجع الوثائق التي عجزت كافة الأطراف المعنية حتى الآن باستثناء المالكي عن مراجعتها والتدقيق فيها، فتوصل . إلى ldquo;إنها فقاعات وألاعيب إعلامية تقف وراءها أهداف سياسية معروفة وتثير من حيث أسلوبها وتوقيتها أكثر من علامة استفهامrdquo; .

سواء كانت هذه الوثائق فقاعات وألاعيب أولا، فمن المؤكد أنها ألحقت بالمالكي ضرراً وأساءت إلى سمعته . وحيث إنه حريص على هذه السمعة، وحيث إنه يؤمن إيماناً مطلقاً بالقانون وبدولته، وحيث إنه صريح ولا يتوانى عن توجيه الاتهامات المباشرة ضد كافة الذين أساؤوا إليه، فلماذا لا يطالب بإجراء تحقيق دولي بإشراف الأمم المتحدة من أجل كشف تلك الأهداف السياسية ldquo;المعروفةrdquo; التي تتعمد الإساءة إليه وتصويره بأنه ldquo;طائفيrdquo; وrdquo;انتقاميrdquo; وrdquo;منحازrdquo;، وللكشف عن سر ذلك التوقيت المريب الذي جعل ناشطو ldquo;ويكيليكسrdquo; ينشرون وثائقهم عندما بدا وكأن كافة الأبواب الموصدة قد فتحت من أجل عودة المالكي إلى رئاسة الحكومة؟

نستطيع الجزم بأن المالكي لن يقدم على أية خطوة من هذا النوع . فوثائق ldquo;ويكيليكسrdquo; لم تأت، كما أشرنا أعلاه، بجديد خاصة عن نوري المالكي . ولئن نسي أو تناسى العراقيون نزعة المالكي الانتقامية، فإنه سارع إلى تذكيرهم بها عندما استصدر مع احترام مبدأ استقلال القضاء حكم الإعدام على طارق عزيز . بلى قد يأمر المالكي بتشكيل لجنة محلية للنظر في تقارير ldquo;ويكيليكسrdquo;، وقد تصدر هذه اللجنة تقريراً ولكن مصداقية هذه اللجنة لن تكون أكبر بكثير من مصداقية القضاء الذي أصدر حكم الإعدام على وزير خارجية العراق الأسبق . فاللجان وفرق الموت والقوات الخاصة والسجون السرية التي أنشأها المالكي لم تنشأ من أجل حماية القانون والعدالة ودفاعاً عن أمن العراق واستقراره، بل من أجل إقصاء منافسيه عن الحكم، والتفرد بحكم العراق . سوف يستطيع نوري المالكي أن يدحض كل هذه الانطباعات، وأن يظهر أنها أيضاً فقاعات وافتراءات إذا ما وجه رسالة إلى هيئة الأمم المتحدة يطلب فيها علناً ومباشرة بتشكيل لجنة دولية للتحقيق في اتهامات ldquo;ويكيليكس غيتrdquo; .