عبد الباري عطوان

ليس جديدا القول بان الوضع في لبنان متأزم، وان حالة التوتر في قمة ذروتها، ولكن الجديد ان هناك حالة من الاستعجال من قبل اكثر من طرف، داخلي وخارجي، لاشعال فتيل الانفجار، واغراق البلاد في دوامة المواجهات الدموية، وربما الحرب الطائفية.
هناك عدة نقاط يجب التوقف عندها كمدخل لقراءة الخطوط العريضة لما يمكن ان يحدث في الاسابيع القليلة المقبلة:
* اولا: المواجهة التي وقعت بين فريق محققين تابع للمحكمة الدولية المشكلة للتعاطي مع جريمة اغتيال رفيق الحريري، وبعض النساء في عيادة للامراض النسائية في الضاحية الجنوبية متخصصة في علاج زوجات بعض المسؤولين في حزب الله.
* ثانيا: اعلان السيد حسن نصر الله زعيم المقاومة الاسلامية وقف كل انواع التعاطي مع المحكمة وفرق تحقيقاتها بسبب خروجها عن قواعد الاخلاق في التدخل في المواضيع الحساسة وجمع معلومات عن لبنان ومؤسساته وطلابه وتحويلها الى اسرائيل.
* ثالثا: مطالبة اكثر من كاتب في صحف سعودية باستقالة السيد سعد الحريري رئيس الوزراء، وانسحاب المملكة العربية السعودية سياسيا من لبنان والاهتمام بقضايا اكثر حيوية بالنسبة اليها مثل اليمن والسودان.
* رابعا: شن رئيس تحرير صحيفة 'الاهرام' المصرية هجوما شرسا على سورية والرئيس بشار الاسد على وجه الخصوص، في افتتاحية على الصفحة الاولى في عدد امس، وهو هجوم استخدم عبارات والفاظاً غير مسبوقة، واذا جرى ربط ذلك بما يشاع عن دعم مصري لكتلة الرابع عشر من آذار، واستقبال الرئيس المصري حسني مبارك للسيدين سعد الحريري وسمير جعجع قائد القوات اللبنانية يمكن رسم ملامح الدور المصري الحالي والقادم في لبنان.
ما يمكن استخلاصه ان هناك سباقا بين تيارين في لبنان، الاول يريد البحث عن تسوية اقليمية بمباركة امريكية غربية تؤدي الى تأجيل صدور القرار الظني الذي يؤكد الجميع تقريبا انه سيتهم حزب الله بالوقوف خلف جريمة اغتيال الرئيس الحريري، والثاني يتعمد التصعيد ووضع عراقيل امام الجهد السعودي ـ السوري المشترك في هذا الصدد لتفجير الاوضاع في لبنان.
فرص التيار الثاني المدعوم امريكيا هي الاقوى، وزيارة ديفيد فيلتمان مساعد وزير الخارجية الامريكي الخاطفة لبيروت ومن قبلها الرياض لتطويق آثار زيارة السيد محمود احمدي نجاد رئيس ايران الى العاصمة اللبنانية كانت لتأييد هذا التيار، وتحريضه للاستئساد في المواقف والتصلب في التمسك بالمحكمة ومساندة تحقيقاتها.
فلم يكن من قبيل الصدفة ان تأتي الردود من قبل متحدثين باسم تكتل الرابع عشر من اذار على تصريحات السيد ناجي عطري رئيس وزراء سورية التي وصف فيها هذا التكتل بانه 'هيكل كرتوني' في قمة الشراسة والاستفزاز، بل وخارجة عن كل الاعراف من حيث التطاول على سورية وجيشها ورئيسها، والتشفي بخروجها 'المذّل' من لبنان.
** *
من الواضح ان عمليات الاستفزاز لحزب الله وتكتله ستشهد تصعيدا اكبر بعد انتهاء انتخابات الكونغرس النصفية، ومن غير المستبعد ان يمتد هذا التصعيد باتجاه سورية وايران ايضا، فعندما تقول السيدة سوزان رايس مندوبة امريكا في الامم المتحدة ان سورية تزعزع الاستقرار في لبنان والمنطقة، وعندما يحذر فيليب كراولي المتحدث باسم الخارجية الامريكية من وضع مقلق بسبب اسلحة حزب الله ومواقفه، فان علينا ان نتوقع الاسوأ.
السيناريو المتوقع والذي يمكن استخلاصه من 'المواجهة النسائية' مع فريق المحققين في الضاحية الجنوبية، عنوانه 'الاستفزاز' والمزيد من الاستفزاز لايقاع حزب الله في مصيدة عدم التعاون مع القرارات الدولية وتجريمه ومن ثم شيطنته بالتالي.
السيناريو نفسه جرى استخدامه مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، عندما تعمدت فرق التفتيش الدولية، التي تبين فيما بعد ان معظم عناصرها من عملاء المخابرات الامريكية والاوروبية، تفتيش غرفة نوم الرئيس الراحل بحثا عن اسلحة الدمار الشامل للامعان في اذلاله، وتهشيم كبريائه، لدفعه الى الرفض، وبالتالي تبرير اي عدوان على العراق تحت ذريعة عدم التعاون مع فرق التفتيش الدولية.
ريتشارد بيرل 'أمير الظلام' واحد ابرز مخططي الحرب على العراق، ابلغني شخصيا، على هامش محاضرة مشتركة بعد الحرب على العراق بعام، ان ادارته كانت تعرف ان الرئيس العراقي لا يملك اسلحة دمار شامل، وانها كانت تبحث عن ذرائع لاستفزازه، ولا نستبعد ان يكون فريق المحققين الذي ذهب الى عيادة نسائية في الضاحية الجنوبية يتبنى المخطط نفسه، فما علاقة هذه العيادة المتخصصة في امور نسائية حساسة بعملية اغتيال الرئيس الحريري، ولماذا يريدون جميع الملفات (سبعة آلاف ملف) ثم يكتفون، وبسبب شجاعة الطبيبة المسؤولة، بتخفيض العدد الى سبعة عشر ملفاً؟
الدخول الى غرفة نوم صدام حسين، لم يمنع مسلسل المطالب المذلة المتلاحقة لنظامه، كما ان تعاونه مكرهاً مع هذه المطالب وتلبيتها لم يمنع العدوان على بلاده واحتلالها وتدميرها وايقاعها في حال من الفوضى الدموية، والحرب الطائفية، ومقتل مليون انسان بريء، ومن يضمن لنا، في حال موافقة حزب الله على مطلب فرق التحقيق المذكورة بالحصول على ملفات المريضات من زوجات مسؤولي حزب الله، ان يكون الطلب القادم تفتيش غرفة نوم السيد حسن نصر الله مثلاً.
لا نريد ان نرش الملح على جرح التوتر اللبناني النازف، وان نرسم صورة تشاؤمية لما يمكن ان يتبلور عن سياسات التهور التي تتبناها بعض الاطراف اللبنانية بتحريض خارجي، ولكن نجد لزاماً علينا القول بان من يحرضون على استقالة السيد الحريري لا يدركون حجم المخاطر التي يمكن ان تترتب على ذلك، وابرزها حدوث فراغ سياسي، وازمة دستورية قد تؤدي الى نسف اتفاقي الدوحة والطائف، وترسيخ الانقسام الحالي، وربما الدفع باتجاه حرب طائفية سنية شيعية. فاذا كانت النخبة السياسية العراقية عجزت عن تشكيل حكومة بعد سبعة اشهر من الانتخابات فكم سنة ستحتاج نظيرتها اللبنانية لفعل الشيء نفسه في ظل حالة الاستقطاب الراهنة.
***
المحكمة الدولية مجرد اداة لتجريم 'حزب الله' كمقدمة لتجريم سورية، وبما 'يشّرع' عدواناً اسرائيلياً على الطرفين، بدعم من تيار لبناني داخلي. فالعقلية الغربية تبدأ بالاسهل ثم بالأصعب، وهناك من يعتقد ان الوصول الى ايران ومنشآتها النووية يجب ان يمر عبر الحرب ضد حزب الله، وسورية اذا تدخلت لنصرته.
القرار الظني قد يصدر قبل موعده في شهر كانون الاول/ديسمبر المقبل ويبدو ان جهود العاهل السعودي لاحتواء التوتر في لبنان بالتنسيق مع الرئيس السوري، لتأجيل صدوره تواجه العديد من العراقيل ان لم تكن قد انهارت، ولا نستبعد ان يكون هناك جناح في المملكة يعارض هذا التنسيق ويريد ان ينسف معادلة 'س.س' اي السعودية وسورية القادرة على التهدئة في لبنان.
رفض السيد نصر الله التعاون مع فريق المحققين التابع لمحكمة الحريري قد يكون مبرراً، لان التعاون من عدمه لن يغير من الخطة الامريكية الاسرائيلية المدعومة من بعض العرب لتدمير الحزب ومحاولة نزع اسلحته او بالاحرى انهاء وجوده على الساحة اللبنانية بالقوة التدميرية، ولنا مما حصل في العراق ونظامه السابق عبرة.
السؤال هو عما اذا كان بعض اللبنانيين المتحمسين للمحكمة يتبصرون بما يمكن ان يحدث لبلدهم في حال انفجار الوضع عسكرياً، داخلياً او نتيجة غزو اسرائيلي؟
امريكا ارسلت 170 الف جندي الى العراق واحتلته، ولكنها لم تستطع فرض السلام والاستقرار على ارضه بعد تغيير النظام. وها هي تستجدي التفاوض مع حركة طالبان في افغانستان لتأمين هروب آمن، فكيف سيكون الحال لو كررت الخطأ نفسه بطريقة مباشرة، او عبر اسرائيل بغزو لبنان؟
اسرائيل جربت الغزو مرتين، الاولى صيف عام 1982 والثانية صيف عام 2006، وخرجت من الغزوين مهزومة ذليلة، فلتجرب للمرة الثالثة، وقد تكون النتائج اكثر دماراً لها وللبنان ايضاً، هذا اذا لم تجر المنطقة كلها الى حرب اقليمية.
السيد حسن نصر الله قال المطار بالمطار، والضاحية بتل ابيب. ولا بد انه عندما يرفض التعاون مع فرق التحقيق الدولية يعرف ما يترتب على ذلك، وقد وضع كل الخطط لمواجهة كل الاحتمالات، او نأمل ذلك.