محمد السمّاك
عندما رسم الدبلوماسيان البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو الخريطة السياسية للشرق الأوسط في عام 1916، كانت المنطقة كلها جسماً واحداً، وكان تقسيمها إلى كيانات سياسية عملية طوبوغرافية ترسم على الورق، فيكبر هذا الجزء او يصغر وفقاً لمنطق المساومة وحتى لسماكة قلم الرصاص الذي يستخدم في عملية الرسم.
يبدو الآن ان خريطة سايكس - بيكو قد استنفذت أغراضها، وان القوى المهيمنة على النظام العالمي الجديد بصدد إعادة النظر في هذه الخريطة وفقاً لحسابات جديدة يفرضها منطق جديد في المساومة السياسية.
فالخريطة التي يجري العمل على إعدادها لا يمكن ان ترسم بالسهولة التي جرت في عام 1916. هذه المرة تحتم عملية الرسم والتخطيط إعادة توزيع السكان وفقاً لانتماءاتهم العرقية او الدينية او حتى المذهبية. وما يجري في العراق شمالاً ووسطاً وجنوباً، وما يجري في السودان بين الشمال والجنوب، يشكل أول ممارسة على أرض الواقع لهذه العملية.
ولأن ملف الشرق الأوسط الجديد مفتوح على دفتيه من باكستان حتى المغرب، فان من السذاجة الاعتقاد ان الملف اللبناني من النهر البارد شمالاً حتى الناقورة جنوباً قد أغلق. تحرّك هذا الملف عوامل عديدة منها الحاجة إلى تقرير مصير اللاجئين الفلسطينيين (حوالي 350 الف نسمة) وأكثريتهم الساحقة من مهاجري 1948، أي من عمق إسرائيل اليوم. لقد أعلنت إسرائيل مراراً وعلى لسان مختلف المسؤولين فيها انها لن تقبل بعودة اي منهم، ولا حتى إلى قطاع غزة او إلى الضفة الغربية. ويشكل هذا الموقف تعطيلاً لقرار مجلس الأمن الدولي 194 الذي ينص على حق العودة. ويشكل بالتالي دعوة لتوطينهم حيث هم كشرط مسبق لأي تسوية سياسية. ومنها ايضاً ثروة لبنان المائية والطمع الإسرائيلي بها.
ان عرقلة استثمار مياه لبنان ترتبط بشكل مباشر بالتطلعات الإسرائيلية إلى هذه المياه في إطار أي تسوية؛ على ان أهم هذه العوامل على الإطلاق يتمثل في أمرين أساسيين : الأمر الأول هو ان الوحدة الوطنية في لبنان لا تبدو مستعصية بما فيه الكفاية على محاولات النيل منها رغم مرور أكثر من عقد من الزمن على إقرار وثيقة الوفاق الوطني التي صيغت في مؤتمر الطائف 1989 واتفاق الدوحة وطاولة الحوار الوطني وحكومة الوحدة الوطنية. بل انها تبدو هشّة بصورة خاصة بين ابناء الجيل الجديد الذين فتحوا عيونهم على الحرب وعاشوا طفولتهم ومراهقتهم بين متاريسها، ونهلوا من ثقافتها حذراً من الآخر وعدم ثقة به. ومن المؤسف انه لم يجر عمل ترميمي لشخصية هذا الجيل الذي يقف اليوم على عتبة الإمساك بقرار المستقبل، بكيفية تحرّره من رواسب الحرب تربوياً وثقافياً. بل أن قوى حزبية وعقائدية استسهلت عملية استقطابهم من جديد.
الأمر الثاني هو انه على الرغم من نجاح لبنان في إعادة بناء مؤسساته الدستورية فان الطعنات تتوالى على هذه المؤسسات من كل حدب وصوب ويشمل ذلك المؤسسات السياسية والأمنية والاقتصادية على حد سواء. ثم أن الممارسة اليومية للسيادة لا توحي لأصحاب مشروع الشرق الأوسط الجديد على الأقل، ان اللبنانيين انتقلوا فعلاً من فيء الطائفة إلى حضن الوطن. وانهم لم يعودوا بحاجة، لمعالجة اختلافاتهم السياسية، إلى حكم أو إلى وسيط خير من وراء الحدود يحذر وينصح ويقترح ويوفّق.. ويشكل بالتالي صمام الامان لاستمرار الدولة . وتشكل مجموعة الدول من ايران والسعودية وسورية وقطر وكذلك فرنسا والولايات المتحدة quot;كونسورتيومquot; طبي سياسي مستنفر لمعالجة الاشتراكات المرضية السياسية التي تعصف بلبنان من وقت لآخر.
أوحى هذا السلوك لأهل الحل والعقد في الشرق الأوسط - وهو شعور ليس صحيحاً بالضرورة - انه اذا تُرك رجال السياسة في لبنان وشأنهم، فانهم قد يفجرون أزمة جديدة من شأنها ان تجرّ لبنان إلى فتنة جديدة، والفتنة الجديدة التي يشيرون اليها ويتخوفون منها هي الفتنة المذهبية هذه المرة ؛ واذا كان الجيل الحالي من السياسيين اللبنانيين قد اكتوى بنار الفتن الطائفية والمذهبية المختلفة والمتعددة (1990-1975) مما يشكل عامل ضبط لا يشجع على ارتكاب المعصية مرة ثانية، فان بذور عصبية الجهل المغروسة في الثقافة العامة لا تزال جاهزة ومستنفرة، ولا تزال بالتالي، قادرة على جرّ الجيل الجديد إلى تجاوز الخطوط الحمر التي تحددها مقتضيات الوفاق الوطني. وتكشف تصريحات عدد من القيادات الحزبية والسياسية ان هذا الخطر هو قاب قوسين أو أدنى !!.
لقد حُرم ابناء هذا الجيل من درسين أساسيين كانا ضروريين لانتزاع بذور العصبية من النفوس وبالتالي لوضع لبنان على الطريق الصحيح نحو إعادة بناء ذاته اجتماعياً وسياسياً وثقافياً على حدّ سواء. الدرس الأول هو محاسبة المسؤولين عن الفتنة الكبرى. ولكن الذي حدث هو انه بدلاً من المحاسبة، أغدقت على هؤلاء المسؤولين مناصب التكريم السياسي والمعنوي استرضاء وتقديراً.
الدرس الثاني هو ممارسة المسؤولين عن الفتنة لفضيلة النقد الذاتي ؛ واعتذارهم للناس عما تسببوا لهم به من ويلات ومصائب، وبالتالي الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه وتلاوة فعل الندامة. ولكن بدلاً من ذلك فان الدولة اللبنانية اعادت تكييف ذاتها على قاعدة توحي وكأن أياً من هؤلاء لم يكن على خطأ، وان المسؤولية تقع على من هم خارج الحدود وعلى الظروف الإقليمية المعقدة التي جعلت من لبنان مسرحاً لحروب الآخرين ولتصفية حساباتهم!
انبثقت عن هذا الواقع نظرية quot;الانتظار امام مفترق الأحداثquot;، لعل الظرف الإقليمي يصبح غداً أو بعد غد أكثر ملائمة بحيث يسمح بتحقيق ما لم يتحقق بالأمس. ان رهان البعض على متغيرات إقليمية، (تسوية فلسطينية إسرائيلية، أو تسوية أميركية إيرانية)، لا يزال رغم كل ما حدث يهيمن على جوانب من فكر سياسي مهووس بأمل الانتظار، متشكك في القدرة على الوفاق الذاتي. وهو فكر محدود الأفق يتعامل مع الوفاق وكأنه مجرد تسوية مرحلية تقرر متغيرات إقليمية متوقعة دائماً ولكنها لا تأتي ابداً.
ليس هذا التشخيص لحالة الوهن الوطني التي يعاني منها لبنان مجهولاً من أصحاب مشروع الشرق الأوسط الجديد. فقد نقل اليّ دبلوماسي من دولة أوروبية كبيرة مدى تحسس هؤلاء لهذه الحالة معترفاً بان تقرير مصير لبنان يؤرّق المجموعة الدولية المعنية بتحقيق تسوية سياسية شاملة في الشرق الأوسط. وقد حدد لي هذا الدبلوماسي مصادر الأرق بأمرين :
الأمر الأول هو ان لبنان لا يبدو انه اقنع نفسه بعد، وهو بالتالي لم يقنع الآخرين، بانه تعلم ما يكفي من الدروس والعبر التي تمكنه من تجاوز محنة الانقسام الداخلي. كذلك فان لبنان لا يبدو قد نجح في ترجمة شعار العيش المشترك ممارسة ثقافية وتربوية واجتماعية صادقة وأصيلة.
الامر الثاني هو ان القوى السياسية المحلية في لبنان لم تقنع بسلوكها المجموعة الدولية بأنها لم تعد تستقوي على بعضها بقوى خارجية. وان احترام سيادة الدولة يشكل بالفعل السقف الذي تجري تحته اللعبة السياسية، في وجوهها المختلفة تحالفاً او تصارعاً.
وأسرّ لي محدثي ان هذين الأمرين يصنعان وضعاً يربك المجموعة الدولية. وفي نظره انه اذا بقي لبنان على ما هو عليه الان، بؤرة مضطربة ومستضعفة، فانه يفتح شهية الآخرين للهيمنة عليه ومحاولة احتوائه. ومن شأن هذا الأمر أن يفتح الأبواب أمام الصراعات الإقليمية.
ولأن لبنان لم يوحِ للمجموعة الدولية بأنه قادر على تجاوز ما هو عليه الآن من ضعف واستضعاف وبالتالي فانه ليس لقمة سائغة يسهل قضمها وهضمها، فانه قد يجد نفسه مطروحاً على طاولة التسوية في كل مرة ينشب فيها صراع بين قوى إقليمية بامتداداتها الدولية.
فلبنان في واقعه الحالي يبدو quot;الرجل المريضquot; في الشرق الأوسط، أو لعله يبدو quot;كالقصعةquot; التي تتزاحم عليها الذئاب في زمن المجاعة !!
التعليقات