عصام نعمان
تستوقف المرء ظاهرة الطرود المفخخة . قيل، بادئ الأمر، أن مصدرها اليمن، وأن هدفها كنيس يهودي في مدينة شيكاغو الأمريكية . بعد أيام اختطفت اليونان الأضواء . فمنها وصل الى مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل طرد مفخخ، بينما فُجرت خمسة طرود في العاصمة أثينا، اثنان أمام السفارتين الروسية والسويسرية وثلاثة استهدفت سفارات بلغاريا وتشيلي وألمانيا . وفجرت الشرطة اثنين في مطار المدينة، أحدهما كان موجهاً الى محكمة العدل الأوروبية والشرطة الأوروبية في بروكسل . كل ذلك غداة العثور على أربعة طرود موجهة الى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وآخر الى مكاتب الاتحاد الأوروبي في بروكسل، فضلاً عن طرد موجّه الى رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برليسكوني .
التحقيقات في أثينا لم تشر الى صلة لهذه الطرود بالطردين المفخخين اللذين شحنا من اليمن . فالمتهم بطرود اليمن تنظيم ldquo;القاعدةrdquo; الذي أطلقت السلطات حملة عسكرية واستخبارية كبيرة لتعقب زعيمه المحلي السعودي إبراهيم عسيري . أما في اليونان فإن المشتبه بهم أعضاء في تنظيم يساري متطرف ذي سوابق في العنف الأعمى .
سبقت طرود اليمن واليونان ورافقتها تفجيرات عنيفة في اسطنبول وأخرى في بغداد . في اسطنبول، لم يؤدِ التفجير إلى سقوط قتلى بل نحو 22 جريحاً . في بغداد، كانت التفجيرات بالغة العنف والتدمير . فقد بدأت في كنيسة سيدة النجاة للكلدان الكاثوليك وحصدت نحو 50 قتيلاً وعشرات الجرحى، ثم اجتاحت في اليوم التالي أربع مناطق في العاصمة ذهب ضحيتها أكثر من 76 قتيلاً و200 جريح .
ما سر الموجة الجديدة من العنف الأعمى؟
ثمة ملاحظات لا بد من تسجيلها ومحاولة تفسيرها .
أولاها، إن أهداف الطرود المفخخة كما عمليات النسف والتدمير هي سياسية بامتياز . فقد استهدفت شخصيات قيادية سياسية (رؤساء حكومات) ومؤسسات ذات طابع سياسي وقضائي وديني كمؤسسات الاتحاد الأوروبي والمحكمة الأوروبية وسفارات لدول أوروبية وأمريكية جنوبية وكنيس يهودي . يمكن تفسير حملة الطرود في أوروبا بأنها أحد مظاهر السخط على السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة لحكومات فرنسا وإيطاليا وألمانيا التي كانت، وما زالت، موضع نقد ومعارضة وإضرابات وتظاهرات واسعة . كما يمكن تفسير استهداف الكنيس اليهودي بإنه جزء من حملة التعبئة التي مارسها الصهاينة في أمريكا ضد الرئيس أوباما وحزبه الديمقراطي عشية الانتخابات النصفية . لكن، ما الذنب الذي اقترفته حكومة تشيلي بعد نجاحها في تخليص عشرات العمال من منجم منهار؟
ثانيتها، أن تنظيمrdquo; القاعدةrdquo; أعلن مسؤوليته عن تفجير كنيسة الكلدان الكاثوليك في بغداد وعن تهديد الأقباط المسيحيين في مصر، بينما لم يتبنَ ما نُسب إليه بشأن الطرود المفخخة المرسلة من اليمن او التفجيرات الدموية الحاصلة في أحياء بغداد .
ثالثتها، أن الرئيس أوباما لم يتوانَ قبل أيام من التحذير بأنه اذا لم تُحل أزمة جنوب السودان سلمياً وفق الاستفتاء الموعود فإن حرباً سوف تندلع هناك وتحصد الملايين . نعم، قال ldquo;الملايينrdquo;!
رابعتها، إن العنف الأعمى لا تحتكر ممارسته قوى وعناصر إسلامية متطرفة او يسارية ويمينية متطرفة بل تمارسه أيضا دول كالولايات المتحدة التي تستخدم طيارات بلا طيار لتضرب بصورة عشوائية تجمعات مدنية سكانية في باكستان على طول حدودها مع أفغانستان، في محاولة لقتل قياديين في تنظيمات العنف الأعمى، فتكون النتيجة قتل عشرات المدنيين الأبرياء . وقد أدى استخدام هذا الأسلوب العشوائي إلى صدور احتجاجات قوية من حكومة باكستان ضد ldquo;حليفتهاrdquo; أمريكا . . .
في ضوء هذه الملاحظات ينهض سؤال: لماذا يحرص ممارسو العنف الأعمى في الشرق والغرب على استهداف المدنيين الأبرياء؟
قيل إن ضرب المدنيين يهدف الى ترهيبهم وزعزعة ثقتهم بأهل السياسة وبالتالي حملهم على مقاطعتهم، لاسيما في الانتخابات، بغية ترهيل النظام السياسي القائم وإسقاطه . لكن الدروس المستخلصة من التجارب تشير إلى عدم فعالية هذا الأسلوب . فما من انتخابات نيابية أو استفتاءات سياسية محورية في أية دولة أدى استخدام العنف الأعمى الى تعطيلها نتيجة مقاطعة الناخبين .
قيل إن اغتيال قادة سياسيين كبار يؤدي الى تغييبهم ومعهم السياسات التي يعتمدونها . لكن الدروس المستخلصة تشير إلى أن لتغييب أحد القادة الكبار تأثيراً محدوداً في المجال السياسي اذ كثيراً ما ينجح أهل النظام القائم في توفير قائد بديل لملء الفراغ المؤقت الناجم عن إزاحة القائد الأصيل .
قيل أيضا إن ضرب المدنيين هو تدبير مدروس من قبل بعض التنظيمات الدينية ldquo;المتطرفةrdquo; هدفه الانتقام من الشعب ldquo;الكافرrdquo; أو ldquo;المتهاونrdquo; أو ldquo;المتعاون مع الحاكمين الفاسدينrdquo;، وإن ذلك يفضي إلى إيقاظ الناس من سباتهم وحملهم على مراعاة الفروض الدينية، وبالتالي إفراز قيادات حريصة على المسلك الأخلاقي الصحيح . لكن الدروس المستخلصة تشير الى أن لعمليات ldquo;التكفيرrdquo; وrdquo;الانتقامrdquo; وrdquo;التأديبrdquo; مردوداً محدوداً، وأن الحكام المستبدين كثيراً ما كانوا يستثمرون ردود الفعل الساخطة بين الناس على عمليات التكفير والانتقام من أجل مقارنتها بسياسة التسامح النسبي التي يمارسونها ما يدفع الناس، أو بعضهم في الأقل، إلى تجديد البيعة لهم باعتبارهم أهون الشرين!
الحقيقة أن دروس التاريخ تؤكد أن النهج الأنجع والأفعل في مواجهة الاستبداد والاحتلال والظلم والاستغلال هو المقاومة المدنية والميدانية .
التعليقات