محمد السمّاك

لم تعد الحرب الالكترونية نسجاً من الخيال.
ان التجسس الالكتروني والتخريب الالكتروني والتضليل الالكتروني يمارَس على نطاق واسع منذ سنوات. وهو في حال تطور واتساع دائمين. وكان آخر مسرح لهذه الحرب المنشآت النووية الإيرانية. فقد استهدفت جرثومة الكترونية أجهزة الكومبيوتر ما ادى الى تعطيل 45 الف جهاز يقع 60 بالمئة منها داخل المنشآت النووية الإيرانية وخاصة تلك التي تعمل في انتاج المياه الخفيفة في بوشهر.
وكأي عمل ارهابي واسع النطاق لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن هذه quot;القذيفة الالكترونيةquot;. غير ان اسم الجرثومة القذيفة يحمل توقيع أصحابها. quot;ستاك - ناتquot; فالاسم يشتق من ميرتوس وهو أحد ألقاب الملكة إيستر التي كانت واحدة من الشخصيات البارزة في التاريخ التوراتي اليهودي. لم تنفِ اسرائيل التهمة ولم تؤكدها. إلا ان العالم كله أدرك انها هي التي أطلقت تلك الجرثومة في محاولة منها لشلّ القدرة الإيرانية على انتاج سلاح نووي.
وفيما تعمل ايران على معالجة أجهزتها الالكترونية من التداعيات المدمرة لهذه الجرثومة الاسرائيلية فان السؤال الذي يفرض نفسه هو: ماذا اذا أطلقت اسرائيل قذائف جرثومية الكترونية جديدة ضد الأجهزة الالكترونية التي تدير منشآت حيوية في الدول العربية مثل المطارات والجامعات والدوائر الحكومية والأمنية وسواها؟.
هل هناك استعدادات وقائية؟.
لقد أنشأت اسرائيل وحدة في جهاز الموساد (جهاز التجسس) أطلقت عليها اسم quot;وحدة 8200quot;. ولا يقتصر عمل هذه الوحدة على التجسس الالكتروني فقط ولكنه يتعدى ذلك الى انتاج الآليات للهجوم الالكتروني عندما تدعو الحاجة.
وقد دعت الحاجة فعلاً الى استخدام هذه الآليات ضد ايران اعتقاداً من اسرائيل بأن امتلاك ايران للسلاح النووي يعرّض أمنها الاستراتيجي للخطر. وقد نجحت في ذلك ولو نجاحاً جزئياً.
مع ذلك لم تكن العملية الاسرائيلية ضد ايران الأولى من نوعها في عالمنا الالكتروني الحديث. فقد سبق للاتحاد الروسي أن شنّ حرباً الكترونية ضد استونيا في عام 2007. واصابت وزاراتها ومصارفها ودوائر الأمن فيها بالشلل.
ثم شنت هذه الحرب على جورجيا في عام 2008 وتمكن الروس من التشويش على الاتصالات بين القيادة العسكرية والوحدات التي كانت تقاتل القوات الروسية. كما تمكنوا من تضليل الطيران الجورجي الأمر الذي أدى الى الهزيمة التي لحقت بها على الرغم من كل الدعم والمساعدة التي كانت تتلقاها جورجيا من الولايات المتحدة واسرائيل وحلف شمال الأطلسي.
وفي أيار من عام 2007 تمكن الصينيون من اختراق جهاز المعلومات الالكتروني الخاص في مكتب المستشارة الألمانية انجيلا ميركل. كما تمكنوا من اختراق أجهزة عدد من الوزارات الألمانية بما فيها وزارة الصناعة ووزارة الدفاع !.
تمكن الصينيون كذلك حسب المعلومات الرسمية الألمانية من ضخ 160 ميغابايت من المعلومات السرية قبل أن ينكشف أمرهم. وقد اتهمت ألمانيا الجيش الصيني بارتكاب تلك العمليات.
حتى الولايات المتحدة التي تعتبر رائدة في الدفاع عن شبكة معلوماتها السرية تعترف وزارة خارجيتها بأنها تتعرض لمحاولة الاختراق بمعدل مليوني مرة في اليوم الواحد. وانه في كل جزء من الثانية يتعرض أحد المواقع الالكترونية الرسمية الى محاولة الاختراق.
ومن خلال السلاح الالكتروني يستطيع quot;العدوquot; أن يخرب شبكة الاتصالات العسكرية والسياسية وأن يشلّ الدورة الاقتصادية المالية والتجارية والصناعية وأن يعطل شبكة المواصلات..الخ.
كل ذلك من دون أن يطلق رصاصة واحدة. لقد أعدت اسرائيل نفسها لهذه الحرب كما تشير الى ذلك العملية التي استهدفت ايران. فهل أعدت الدول العربية نفسها ايضاً للدفاع.. وللهجوم عندما تقتضي الضرورة؟.
ففي عالم يزداد اعتماداً مدنياً وعسكرياً على الشبكة الالكترونية فان استهداف الشبكات الوطنية الداخلية يلحق بالدولة المستهدفة خسائر كارثية ويدفعها الى الشلل والانهيار بسرعة ومن دون قتال.
من أجل ذلك تداعت الدول الالكترونية الكبرى في العالم وهي الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي الى البحث في إعداد معاهدة دولية جديدة تحظر استخدام السلاح الالكتروني تكون مماثلة في جوهرها لمعاهدة حظر استخدام السلاح النووي لما يمكن ان يلحق هذا quot;السلاح النظيفquot; من خراب ودمار وشلل بالحياة المدنية العامة.
غير ان اسرائيل التي تنتج السلاح النووي وترفض الانضمام الى معاهدة حظر اسخدامه لن يردعها عن استخدام السلاح الالكتروني ضد الدول العربية معاهدة دولية جديدة الامر الذي يشكل حافزاً اضافياً لتطوير جهاز المناعة الالكتروني العربي.
ونظراً لعدم ثقة الدول المعنية ذاتها باحترام معاهدة الحظر حتى اذا تم التوصل اليها فعلاً فانها تعمل على تحصين مؤسساتها من جهة وعلى تجهيز وسائل هجومها المعاكس من جهة ثانية. ومرة ثانية يفرض السؤال التالي نفسه: ماذا تفعل الدول العربية؟
لقد تبنت ادارة الرئيس باراك أوباما على سبيل المثال اجراءات دفاعية لمواجهة اي حرب الكترونية تتعرض لها. وبموجب هذه الاجراءات يتولى الرئيس نفسه اعطاء الاذن بالحرب هجومية كانت أو دفاعية. على ان تتولى التنفيذ وزارة الأمن الداخلي. وقد صيغت الاجراءات بحيث تؤمن رداً سريعاً للهجوم الالكتروني مع مراعاة المحافظة على الحريات المدنية من أي انتهاك تتعرض له من خلال رد الأجهزة العسكرية.
ومن المعروف أن قلب الشبكة الالكترونية الاميركية موجود في البنتاغون (وزارة الدفاع) فيما تنتشر الأهداف الأساسية للحرب الالكترونية في المواقع المدنية سواء داخل الدوائر الحكومية أو المؤسسات الخاصة. وسيتولى المسؤولية الأولية جهاز استحدث أخيراً مهمته مواجهة quot;الحرب الالكترونيةquot; والاستعداد لها برئاسة روبرت بتلر أحد نواب وزير الدفاع.
ومن المتوقع أن تعد وزارة الدفاع الأميركية في وقت لاحق من هذا العام quot;استرتيجية متكاملة لمواجهة الحرب الالكترونية تحدد مهمات المؤسسات المختلفة بدءاً بالبيت الأبيض. حتى ان الكونغرس مدعو الآن لوضع تشريعات جديدة تتماشى مع متطلبات مواجهة الحرب الالكترونية وفي مقدمتها فرض مراقبة الكترونية استباقاً للتعرض للحرب المحتملة.
وكان وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس قد طرح أمام وزراء دفاع حلف شمال الأطلسي مشروعاً لوضع استراتيجية لدول الحلف تمكنها من مواجهة خطر تعرضها لحرب الكترونية.
من خلال ذلك يبدو ان مثل هذه الحرب (التي بدأت فعلاً ولو على نطاق محدود وعلى عدد من الجبهات الساخنة الجورجية والأستونية والجبهات الباردة ألمانيا والولايات المتحدة - وأخيراً على الجبهة الإيرانية) قدر محسوم. فهل تستعد الدول العربية لها وهي تعرف جيداً ان اسرائيل تملك القدرات الالكترونية التدميرية؟