علي جرادات

بعد مرور ثلاثة وتسعين عاماً على وعد بلفور البريطاني، تواصل دول الاستعمار القديم، إنما بقيادة أمريكية، وبما يتناسب مع مستجدات الصراع، مشاركة الصهاينة في سياسة محاولات شطب الشعب الفلسطيني من خريطة التاريخ والجغرافيا والسياسة، عبر دعم مطالبة نتنياهو للعرب والفلسطينيين الاعتراف بrdquo;إسرائيلrdquo; كrdquo;دولة للشعب اليهوديrdquo;، ما يُذَكرُ بأن جذور فكرة التطهير العرقي في فلسطين تعود إلى ما قبل عام ،1948 حيث تؤكد الوقائع التاريخية أن فكرة الاستيطان اليهودي لفلسطين ولدت من رحم الحركة الاستعمارية الأوروبية، وجاءت على شاكلة تفريغها، وأحياناً إبادتها، لشعوب بكاملها في قارات إفريقيا وأمريكا وأستراليا . فقد ظهرت فكرة الاستيطان اليهودي في فلسطين قبل ظهور صيغتها الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر، في دعوة فرنسية في مطلعه إبان الحملة الفرنسية، وفي منتصفه في خطة بريطانية، ما يؤكد أن ldquo;الصهيونية ليست امتداداً لليهودية، بل بنت للحركة الاستعمارية الأوروبية، إذ بينما كان المشروع الصهيوني قيد الطبخ والجدل، كتب بالمرستون (وزير خارجية بريطانيا) عام 1843 إلى سفيره في الأستانة، يدعوه إلى أن يوصي السلطان العثماني بتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين في مواجهة احتمالات تجدد مشروع محمد علي، وطموحه في قيام دولة عربية قوية نواتها مصر وبلاد الشام .

ومنذئذٍ، انتهجت دول الاستعمار الغربي عموماً، وبريطانيا خصوصاً، وأمريكا لاحقاً، سياسة إعاقة وحدة العرب، وخلق كيان غريب موالٍ لها في فلسطين . وتجلى ذلك واضحاً في اتفاقية سايكس بيكو التجزيئية عام ،1916 وفي وعد بلفور الذي منح اليهود (وطناً قومياً في فلسطين)، وتجسد على الأرض في السماح لموجات هجرة يهودية متتالية إلى فلسطين، أقامت تحت سمع وبصر سلطات الانتداب البريطاني مؤسسات اقتصادية وتعليمية وعسكرية، وصولاً إلى ldquo;النكبةrdquo; عام ،1948 وما حلّ يومها بالفلسطينيين من عمليات تطهير عرقي منقطعة النظير، وضعت العالم عموما، والعرب خصوصاً، وشعب فلسطين على نحو أخص، أمام عملية تزوير كبرى في التاريخ المعاصر، فاليهود الذين كانت ملكيتهم من الأرض 6،5% ونحو 30% من السكان تمكنوا من اقتلاع وتشريد 65% من الشعب العربي الفلسطيني وابتلاع 78% من أرضه . وقد جرى هذا التزوير تحت ساتر ldquo;أرض بلا شعب، لشعب بلا أرضrdquo;، الذي انطوى منذ البداية على نية مبيتة لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم .

وتتبدى تلك النية واضحة في ما رصده الباحث أحمد أبو شاويش من تصريحات موثقة لعدد من مؤسسي الحركة الصهيونية . فبعد زيارة قام بها لفلسطين عام ،1897 يقول ldquo;يسرائيل زانغويلrdquo;، أحد المقربين إلى هرتزل: ldquo;علينا أن نستعد إما لطرد القبائل العربية، صاحبة الملكية بحد السيف، كما فعل أجدادنا، وإما أن نتعامل مع مشكلة وجود عدد كبير من السكان الغرباء ومعظمهم من المحمديين الذين اعتادوا ولقرون كثيرة على ازدرائناrdquo; . أما رئيس الحركة الصهيونية، حاييم وايزمن، فيقول في خطاب ألقاه عام 1914: ldquo;في مراحلها المبكرة كانت الصهيونية، كما تصورها روادها، حركة تعتمد كلياً على عوامل ميكانيكية: ثمة بلد صدف أن اسمه فلسطين، وهو بلد بلا شعب . وثمة، من ناحية أخرى، شعب يهودي، وهو لا يملك بلداً، إذاً، لا يبقى سوى وضع الفص في الخاتم، وجمع الشعب والأرضrdquo; . وكان مؤسس الحركة الصهيونية، هرتزل، قد درس مبكراً النموذج الروديسي في عزل القبائل المحلية في إفريقيا، والاستيلاء على أراضيها . وجاءت فكرته عن الاستيطان اليهودي مطابقة لهذا النموذج . فقد قال في يومياته: ldquo;ولكن نزع الملكية وإبعاد الفقراء يجب تنفيذهما بحذر واحتراس وتكتم . . . وسوف نحاول تسريب السكان المعدمين عبر الحدود بتأمين وظائف العمل لهم في بلدان العبور، على أن تسد أمامهم كل مجالات العمل والاستخدام في بلادناrdquo; . أما ldquo;ليون موتسكينrdquo;، أحد أوائل الذين انضموا إلى هرتزل، فقد رأى ldquo;أن يعمل اليهود والعرب كمجموعتين قوميتين، لتحقيق العمق المتساوي بواسطة اتفاقية سياسية حول نقل السكان من منطقة إلى منطقة . . . وأن الاستيطان يجب أن يسير في اتجاهين: استيطان يهودي في ldquo;أرض يسرائيلrdquo;، وتوطين عرب ldquo;أرض يسرائيلrdquo; في مناطق خارج ldquo;إسرائيلrdquo; .

مثلت عمليات التطهير العرقي في فلسطين عام 1948 ترجمة عملية للتوجهات الصهيونية ذات المنشأ الاستعماري الأوروبي، وشكلت منعطفاً نوعياً في الصراع بين الحركة الصهيونية والحركة التحررية العربية والفلسطينية، المنعطف الذي شكل جذر الصراع وجوهره، الذي لن تقوى على معالجته أية محاولات لتفريعه، كأن يقال إن القضية الفلسطينية بدأت عام 1967 باحتلال الضفة وغزة وأراض عربية أخرى . فالقضية ترتد إلى مرحلة سابقة ومعلمها الأبرز التطهير العرقي الذي تعرض له الفلسطينيون عام 1948 . وهذا ما اثبته بالوثائق الأكاديمي ldquo;الاسرائيليrdquo; إيلان بابيه في كتابه ( التطهير العرقي)، داعياً إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين هجّروا نتيجة سياسة تطهير عرقي عام ،1948 وفقاً لقرار الأمم المتحدة 194 . فيما تدعم الإدارة الأمريكية رسمياً وعلناً، على لسان وزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون، مسعى الصهاينة لتصفية حق هؤلاء اللاجئين في العودة، عبر مطالبة العرب والفلسطينيين بالاعتراف بالكيان الصهيوني كrdquo;دولة لليهودrdquo;، بل حتى من دون الاعتراض على ما جرى، وما زال يجري بتسارع، في الأراضي المحتلة عام ،1967 التي تتشابه التطبيقات السياسية الصهيونية فيها، بالسياسات التطبيقية نفسها التي جرت في الأراضي المحتلة عام ،1948 أي الاستيلاء على الأرض واستيطانها . فالمستوطنات اليهودية، كما يشير الباحث أحمد قطامش، تبتلع مساحة 6% من الضفة وغزة، (قبل فك الارتباط الأحادي مع غزة عام 2005)، فضلاً عن الشوارع الالتفافية، فيما مسطحات القرى والمدن الفلسطينية كافة تبلغ 12%، ناهيكم عن ضم القدس الشرقية التي تبلغ مساحتها 17% وتسويرها بأسيجة استيطانية ناهز عدد سكانها 200 ألف، بما يزيد 30 ألفاً عن عدد السكان العرب الفلسطينيين . أما الجدار العنصري التوسعي غربي الضفة ومصادرة الأغوار شرقها، فقد أديا إلى تجزئة الضفة إلى أربعة معازل جائعة، تتشظى معها السوق الفلسطينية، ويصبح كل معزل مرتبط بتجارته وخدماته بالسوق ldquo;الإسرائيليةrdquo; أولاً، من دون أن ننسى فصل الضفة عن غزة وسلخ القدس بما ينتج عن ذلك من تفتيت للكيان الوطني، بعد أن خلقت اتفاقية أوسلو أولويات متناقضة للتجمعات الفلسطينية في الداخل والخارج .

تلك باقتضاب هي قصة الفلسطينيين مع سياسة التطهير العرقي الصهيوني من هرتزل إلى نتنياهو، ومن بالمرستون البريطاني إلى هيلاري كلينتون الأمريكية .