شفيق ناظم الغبرا


بمناسبة عودة المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل والسلطة الوطنية برعاية أميركية، يصعب أن نشرح لشاب أو شابة عربيين يعيشان تحت الاحتلال الإسرائيلي أو في العالم الإسلامي الفارق الكبير بين سياسة إسرائيل وسياسة الولايات المتحدة.

فحتى الساعة تذهب الأموال الأميركية بصورة أو بأخرى الى المستوطنات في القدس والضفة الغربية. وبينما توجد قوانين أميركية ودولية صارمة لمنع وصول الأموال إلى القاعدة والى طالبان، لا يوجد جهد دولي قانوني عالمي وأميركي لمنع وصول أموال الولايات المتحدة إلى المستوطنين في القدس وفي الضفة الغربية والجولان. أليس صحيحاً ان الكثير من الجمعيات الخيرية الأميركية سواء كانت مسيحية أم يهودية تقوم بأعمال تبرعات كبرى تصب في مستوطنات القدس والخليل ونابلس؟

لكن المشكلة اعمق من مجرد تمويل الاستيطان في المناطق العربية، فلتفسير حالة عدم الثقة والشك وأحياناً كثيرة الكراهية التي تستفحل في العالم العربي تجاه الولايات المتحدة علينا أن نتساءل: أليس السلاح والمتفجرات الذي يقتل به العرب منذ أواخر ١٩٦٨ حتى اليوم هو الآخر سلاح أميركي؟ ثم ألا يساوي مجموع التصويت بحق النقض الفيتو الذي مارسته الولايات المتحدة منذ السبعينات حتى اليوم وذلك المكرس لمنع إدانة الاعتداءات الإسرائيلية على العالم العربي والشعب الفلسطيني في مجلس الأمن مجموع ما استخدم من حق النقض الفيتو من قبل باقي الأعضاء الدائمين؟ أليس صحيحاً أن الرئيس الأميركي جونسون عندما علم عام ١٩٦٩ بالبرنامج النووي الإسرائيلي من رئيس الاستخبارات المركزية الأميركية قال له laquo;بأن لا يعلم أحد انه يعلم بالأمرraquo; وذلك ليتفادى القيام بأي جهد لإيقاف البرنامج.

والالتزام الأميركي منذ عقود بإبقاء إسرائيل قوة احتلال واستيطان في الأراضي العربية وتحتفظ في الوقت ذاته بالتفوق على مجموع الدول العربية المحيطة بها، ساهم في مقدرة laquo;القاعدةraquo; على كسب الأنصار، وعزز التشدد في ايران وبين اوساط laquo;حماسraquo; وعمق الارهاب وأضعف الوسطيين العرب. ان هذا الوضع يتناقض مع سعي الولايات المتحدة للتغلب على الإرهاب، كما انه يثير تساؤلات كبرى حول مدى مقدرة الدولة الكبرى الأولى في العالم اتباع خط سير مستقل عن إسرائيل في ظل تسوية قادمة.

ويتطلب تأسيس عالم إسلامي وعربي اقل عنفاً واقل تصادماً مع السياسة الأميركية ابتعاداً أميركياً عن تسليح إسرائيل وعسكرتها، ويجب ان يقترن هذا الابتعاد بإيقاف تدفق مليارات الدولارات العلنية والسرية التي تنتهي في مستوطنات عنصرية إجلائية على شكل بؤر عسكرية تؤسس لحروب ومواجهات لا نهاية لها بين إسرائيل والعالم العربي والاسلامي. ان الإدانة اللفظية الأميركية للاستيطان ستؤدي في النهاية إلى جعل الدولة اليهودية خطراً على نفسها وعلى الولايات المتحدة. من هنا تنبع أهمية ان يكون الرئيس اوباما قادراً على تغير المسار، وإلا ساهم من حيث لا يقوى بتعميق هذا الصراع وزيادة حدته في السنوات القادمة.

ومن الواضح الآن أن الحسم العسكري والضربات الاستباقية لا تصنع عالماً جديداً، فهذا ما اكدته تجربة المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية منذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر). لقد عادت طالبان إلى القتال بقوة في افغانستان مستغلة الاخطاء الأميركية وفساد بعض الاطراف التي شكلت الحكومة الافغانية الجديدة. والعراق انفجر قتالاً وحرباً بعد حل الجيش العراقي واجهزة الامن العراقية عام ٢٠٠٣. وعندما يلتئم العراق ستكون قدرات الولايات المتحدة على التحكم في شؤونه محدودة. ووبينما ننتظر من الرئيس أوباما تغيراً، بخاصة انه يعرف الكثير عن المسألة الفلسطينية، الا انه في التاريخ المديد بين الولايات المتحدة والعالم الاسلامي لم يتغير المنطق الأميركي المنحاز. فقد دعمت الولايات المتحدة شاه ايران ضد رئيس الوزراء الشعبي الوطني محمد مصدق، لكنها انتهت بثورة الخميني الاسلامية، ودعمت الولايات المتحدة إسرائيل ضد القومية العربية وعبدالناصر فانتهت بالحركات الأصولية المعادية للغرب، ودعمت الولايات المتحدة إسرائيل في غزو لبنان عام ١٩٨٢ فانتهت بحزب الله في جنوب لبنان. ودعمت المجاهدين الافغان ومجموعات بن لادن ضد الاتحاد السوفياتي فانتهت بالطالبان والقاعدة وأحداث الحادي عشر من أيلول. كما انها أعاقت، في أوج دعوتها الديموقراطية في الشرق الأوسط في زمن الرئيس بوش، حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية المنتخبة برئاسة laquo;حماسraquo; فانتهى الأمر بسيطرة هذه على غزة. لائحة قصر النظر الأميركية طويلة، على رغم اننا نستطيع ان نستثني منها حرب تحرير الكويت ١٩٩٠ وبضعة مواقف صلبة ذات طابع موقت ضد الاستيطان الإسرائيلي أو لصالح حقوق الانسان في العالم الاسلامي.

لقد اصبح العالم الذي تعيشه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط عالماً سريالياً مليئاً بالتناقضات والحروب والخسائر المالية والبشرية والسياسية. وأصبح السؤال: الى أين تسير الدولة الكبرى الاولى في العالم؟ هل تسير في الطريق ذاته الذي سارت به من قبلها دول كبرى، وذلك من خلال تبديد مواردها في حروب واحتلالات؟ الدولة الكبرى في العالم تتعامل مع السياسة في الشرق الاوسط انطلاقاً من هموم وحسابات إسرائيلية أولاً وذلك لأنها نتاج تأثيرات محلية وانتخابية. لكنها لا تتعامل مع بقية العالم كما هو الأمر في الشرق الاوسط. لقد أضاعت الولايات المتحدة العلاقة العربية الأميركية في حمى الحسابات الضيقة وانتهى بنا الأمر إلى صدام اكبر كما حصل في السنوات الماضية. على الولايات المتحدة أن تتحرر من هذا الضغط الداخلي أولاً لكي تنجح في تحقيق تقدم في الشرق الاوسط. من دون صحوة حقيقية وتحرر من سيطرة أقلية صغيرة على مجرى السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط لن يتغير شيء، بل ستزداد الامور سوءاً وسريالية وعنفاً.

الأميركيون في هذه الايام بالتحديد اكثر استعداداً للاستماع. ففي سلسلة محاضرات لي في مدن أميركية مختلفة على فترات مختلفة في الشهور القليلة الماضية حول أوضاع الشرق الأوسط والمسألة الفلسطينية بدأت أرى عالماً اكثر تساؤلاً عن العلاقة مع العالم الاسلامي والعربي. فوجئت على سبيل المثال في مدينتي دينفر وبولدر في ولاية كولورادو بالاعداد الضخمة المكونة من مئات الحاضرين الذين جاؤوا للاستماع عن laquo;العالم العربي على مفترق الطرقraquo;. العطش الأميركي للتساؤل يعكس الفراغ الذي يعيشه الشعب الأميركي بعد حربي العراق وافغانستان.

فبعد الحادي عشر من أيلول ساد لدى الأميركيبن سؤال أساسي عن العرب: laquo;لماذا يكرهونناraquo;، لكن السؤال بدأ يتراجع الآن أمام سيل من الأسئلة منها laquo;هل قامت السياسة الأميركية بشيء يساهم في هذه الكراهية؟raquo; التيار العام في الولايات المتحدة لم يصل بعد للسؤال الأساسي عن دور إسرائيل في العنف بين الشرق والغرب. ولكن عندما تعلن أمام جمهور أميركي: laquo;لا حل عسكرياً في العراق. لا حل عسكرياً في افغانستان. لا حل عسكرياً للصراع العربي الإسرائيل ولا حل عسكرياً للأزمة مع ايران. بل ان الحل الوحيد هو الحل العادل الذي ينطلق من حقوق الإنسان والمساواة بين الشعوب وحق تقرير المصيرraquo;، تشعر بمدى تجاوب الأميركيين مع منطق ناقد لسياساتهم الخارجية تجاه الشرق الأوسط.

التغيرات الأميركية عديدة، فهناك نمو في الجمعيات الأميركية واليهودية (منها laquo;جي ستريتraquo; Jraquo; streetraquo; اليهودية) التي تعي خطورة استمرار الاحتلال في فلسطين والتي تعي خطورة ابتلاع القدس. في ندوة علنية حاشدة وقفت مواطنة إسرائيلية من مؤيدي حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني تشرح كم تعاني من الملاحقة في إسرائيل لأنها تقول برأي آخر. هناك بدايات وعي أن مصلحة الولايات المتحدة لم تعد تتطابق مع مصلحة إسرائيل، وان مصلحة إسرائيل الرسمية لم تعد تتطابق وعقلية الاستيطان ومصادرة القدس.

إسرائيل مكونة اليوم، في ظل حكومة نتانياهو، من مجموعة من المتعصبين المغامرين الساعين إلى جر دولة كبرى إلى نهاية عالمها. إذ يمثل رئيس الوزراء الإسرائيلي نمطاً من الإسرائيليين الساعين إلى استيطان مزيد من الارض لأنهم يشعرون بأن إسرائيل تقف على مساحات ضيقة وأراض قليلة. ولا يختلف نتانياهو عن غيره من الإسرائيليين الذين ما زالوا ينطلقون من مبدأ التوسع على حساب العرب. ليس هذا بالامر الجديد، اذ يمثل رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي استمراراً للعقيدة الصهيونية التي تؤمن بأن مشروعها مشروع اقتحام واستيطان. ونتانياهو لا يرى فارقاً بين الأراضي التي تم الاستيلاء عليها بالقوة عام ١٩٤٨ وتلك التي تم الاستيلاء عليها بالقوة عام ١٩٦٧، وهو لا يرى ايضاً فارقاً بين القدس الشرقية التي احتلت عام ١٩٦٧ والقدس الغربية التي احتلت عام ١٩٤٨. فهذه العقلية هي أساس الفكرة الصهيونية منذ بداياتها ومنذ نشوء دولة إسرائيل في قلب فلسطين وعلى حساب الفلسطينيين سكان البلاد الأصليين. فالذي يبرر أخذ الأرض عام ١٩٤٨ حيث لم يمتلك اليهود منها اكثر من ٦ في المئة يبرر اليوم قضم ما تبقى من فلسطين والقدس والجولان.

وبينما يزداد الصراع حدة على ارض فلسطين، تزداد حكومة نتانياهو انحداراً نحو اليمين. ان المغالاة ستكون صفة ملازمة للسياسة الإسرائيلية في المرحلة القادمة. لكن هذا لا يعني أن كل الإسرائيليين يرون الواقع من خلال هذا المنظار، هناك قوى أخرى في إسرائيل ترى حدود مشروعها الصهيوني، لكن نمو هذه القوى ودورها معطل حتى الآن في ظل هيمنة اليمين واستفحاله.

إن تغير العلاقة بين الولايات المتحدة والعالم العربي والاسلامي يتطلب تغير قواعد اللعبة الأميركية تجاه الصراع العربي الإسرائيلي في ظل سعي أميركي للتحرر من الانحياز لإسرائيل. ان جوهر التغير يبدأ في فلسطين، فهي النقطة المركزية التي سببت الانقطاع الثقافي والمعنوي بين العالمين وهي التي وضعت الولايات المتحدة في كفة والعالم العربي والإسلامي في كفة أخرى وهي المسؤولة عن سيطرة الديكتاتورية في العالم العربي. وانسحاب الولايات المتحدة من حالة الصدام مع العالم العربي والاسلامي لن يكون ممكناً بلا حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً وانسحاب إسرائيل والمستوطنين، وتأمين حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، وقيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس. كما يجب ان يتضمن الحل انسحاباً من الجولان السورية وتسوية مشرفة مع ايران وبقية العالم العربي. ان حلاً كهذا لن يكون ممكناً بلا تحرر أميركي من سطوة الانحياز والضغط الانتخابي الداخلي الذي يرهق الولايات المتحدة ويزيد من جراحها ويحملها ما لا طاقة لها به. إن إسرائيل بوضعها الراهن عبء كبير على السياسية الأميركية وعلى الامن العالمي.