حميد الكفائي


هناك اختباران لا بد لأي نظام ديموقراطي جديد أن يجتازهما كي يبرهن على حصول تحول ديموقراطي حقيقي في النظام السياسي. الأول هو أن تُجرى الانتخابات بحرية وشفافية ومن دون ضغوط من الحكومة القائمة على الناخبين. والثاني هو أن تنتقل السلطة من حزب إلى آخر مرتين، وليس مرة واحدة. ولو طبقنا هذين الاختبارين على النظام الجديد في العراق لوجدنا أنه اجتاز الأول بينما فشل في الثاني. لقد أجريت الانتخابات للمرة الأولى في 30 كانون الثاني (يناير) 2005 في ظل حكومة الدكتور إياد علاوي الموقتة، وقد فاز فيها الإئتلاف العراقي الموحد (الشيعي) الذي رشح الدكتور إبراهيم الجعفري لرئاسة الوزراء. وعلى رغم علامات الاستفهام الكثيرة على نزاهة تلك الانتخابات، بسبب لجوء القائمة الفائزة إلى استخدام الرموز الدينية والشحن الطائفي والدعاية غير العادلة ضد خصومها، إلا أن علاوي سلّم السلطة إلى القائمة الفائزة على رغم كل التحفظات على فوزها. الانتخابات الثانية أجريت في 15 كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه وقد فازت بها القائمة الشيعية نفسها واحتفظت بالسلطة، غير أن مرشحها لرئاسة الوزراء قد تغير، من إبراهيم الجعفري إلى نوري المالكي.

في الانتخابات الثالثة، التي أجريت في 7 آذار (مارس) هذا العام، وفي ظل حكومة المالكي، كان هناك بعض التغيير في موازين القوى، إذ امتنعت الأحزاب الدينية عن رفع شعاراتها الدينية والطائفية السابقة، وتبنت سياسات وطنية كي تجتذب الناخبين الذين أبدى معظمهم سخطهم من الطائفية السياسية وإقحام الدين ومراجِعه في العملية السياسية، ومن فشل الحكومة في توفير الأمن والخدمات الأساسية. وفي الوقت نفسه فإن حركة وطنية علمانية، ممثلة بالقائمة العراقية بقيادة الدكتور إياد علاوي، قد تبلورت وسعت إلى إزالة الاستقطاب الديني والطائفي، وتمكنت فعلاً من نيل ثقة عدد كبير من العراقيين والفوز بأكثر المقاعد النيابية، لكنها لم تحُز على الغالبية التي تمكنها من تشكيل الحكومة بمفردها. ويمكن القول إن الانتخابات أجريت بقدر معقول من الشفافية والحرية ومن دون ضغوط واضحة على الناخبين أو إقحام لمراجع الدين في الدعاية الانتخابية، وقد انعكس ذلك على نتائج الانتخابات التي لم تسفر عن فائز مطلق. من هذه الناحية فإن العراق اجتاز الاختبار الأول. لكن النظام الجديد فشل من دون شك في الاختبار الثاني، فلم تتغير الحكومة ولم تُسلَّم السلطة إلى الفائزين، بل احتفظت قائمة دولة القانون، وريثة قائمة الإئتلاف الموحد السابق، بقيادة الحكومة على رغم أنها أتت في المرتبة الثانية من حيث عدد المقاعد البرلمانية، وهنا تكمن الخطورة وتتضح هشاشة النظام الديموقراطي الجديد. لقد تمسك السيد المالكي بالسلطة لسبعة أشهر ونصف شهر حتى استسلم له الجميع وقبلوا به رئيساً للوزراء، وكان ذلك حتمياً خصوصاً مع وجوده في الحكومة واستعداده غير المحدود لإدامة الأزمة حتى ينال مبتغاه.

وفي الرئاسة أيضاً، تمسك السيد جلال طالباني بمنصبه على رغم أن صحته وسنَّه لا يسمحان باستمراره، وعلى رغم ضغوط كثيرة مورست عليه من أجل التخلي عن المنصب. كان السيد الطالباني سيدخل التاريخ من بابه الواسع لو أنه تخلى طوعاً عن الرئاسة بعد فترة رئاسية واحدة، كما فعل نلسون مانديلا، لكنه لم يفعل، مفضلاً البقاء في منصب شرفي على التقاعد وفسح المجال لقيادة جديدة.

في معظم الدول التي تحولت حديثاً إلى الديموقراطية، خسر الحزب الحاكم في الدورة الثانية بسبب فشل الحكومة في الارتقاء إلى توقعات الناخبين التي عادة ما تكون عالية بعد فترة إنغلاق وديكتاتورية طويلة والتي تخلِّف وراءها مشكلات كثيرة ليس بمقدور أي حكومة حلها بسرعة. اتفاق أربيل بين القوى السياسية، الذي رعاه الزعيم الكردي مسعود البارزاني، يشكل انفراجاً مهماً في الأزمة السياسية، لكنه لم يحل المشكلة من أساسها. هذا النجاح يُسجَّل للسيد البارزاني الذي يتمتع بصدقية كبيرة بسبب صراحته ووضوح سياساته والتزامه بالعهود التي يقطعها للآخرين، لكن المشكلة العراقية أعمق من أن يحلها شخص واحد، حتى لو كان بقامة السيد البارزاني. إنها تتعلق بغياب كامل للثقة بين الأطراف السياسية وضعف في الثقافة الديموقراطية وانقسام طائفي ومناطقي وقومي يعاني منه المجتمع العراقي منذ فترة طويلة. لا تزال هناك قوى سياسية تدّعي تمثيل quot;الغالبية الطائفيةquot; وتروِّج لأحقيتها في الحكم حتى من دون فوز في الانتخابات، ولا يزال هناك من يخيف الناس من عودة البعث على رغم علمه أن هذا أقرب إلى المستحيل منه إلى الواقع. ولا يزال هناك من يحلم بإعادة الديكتاتورية وإقصاء الخصوم، لأسباب نفسية وثقافية، ولا يزال هناك ناخبون يصدقون بالادعاءات الدينية أو الطائفية لهذه الجهة السياسية أو تلك، وتنطلي عليهم الشعارات الدينية التي تهدف بالدرجة الأساس لإبقاء مطلقيها في السلطة والنفوذ على حساب من يدعون تمثيلهم. كما أن المتذمرين من سياسات الحكومة خلال السنوات الخمس الماضية قد جزعوا إلى حد أنهم كفروا بالنظام الديموقراطي لأنه لم يحسِّن ظروف حياتهم. ينسى هؤلاء أن أي quot;نفعquot; محتمل للديكتاتورية لا يمكن أن يعادل الأضرار الكثيرة التي ستتركها على ثقافة المجتمع واحتمالات تطوره.

الديموقراطية الحالية في العراق منقوصة وهشة وهي تحتاج إلى قوانين تمنع تشكيل الأحزاب على أسس طائفية أو دينية وتجرِّم الدعاية المضللة وتحاسب من يقف وراءها، وهي في حاجة إلى مجتمع مدني واعٍ ومنظم يستطيع الوقوف بوجه أي مد تسلطي جديد، وقوى أمنية مهنية ومحايدة، وجيش قوي موالٍ لمبادئ الدولة لا للأشخاص والأحزاب، وقبل هذا وذاك، فإنها تحتاج إلى قضاء مستقل قادر على الوقوف بوجه من يريد الاستئثار بالسلطة، واصدار الأحكام العادلة من دون مجاملة أو تملق للحاكم.

إن كانت القوى الديموقراطية قد خسرت معركة قيادة الحكومة فإن بإمكانها أن تسعى بقوة من أجل تغيير ثقافة الناخب وإقناعه بالتخلي كلياً عن الطائفية وتسييس الدين. بإمكانها أن تعمل على إعادة تنظيم صفوفها ولفظ العناصر الانتهازية وغير الديموقراطية من تنظيماتها، ثم العمل بقوة من أجل تعديل الدستور واصدار قوانين عصرية للأحزاب والدعاية الانتخابية وإشغال وظائف الدولة على أسس تعتمد الكفاءة والخبرة وتمنع الفساد والمحسوبية. المعركة من أجل الديموقراطية والتنمية والعصرنة لن تحسم في دورة انتخابية واحدة او اثنتين، بل تحتاج إلى صبر وأناة وعمل دؤوب كما تحتاج إلى براغماتية وإيثار وتنسيق للجهود، وفي خلاف ذلك فإن البديل قد يكون ديكتاتورية من نوع جديد لم نألفه من قبل.