حازم صاغيّة


إذا وضعنا جانباً تفاصيل الاستفتاء التركيّ الأخير، أمكن تلخيص الأمر على النحو الآتي:

هل أنت مع ديموقراطيّة تركيّة تكون أكثر تقدّماً وأشدّ تحلّلاً من رقابة العسكر، أم أنت مع علمانيّة يصعب الحفاظ عليها من دون الرقابة العسكريّة على العمليّة الديموقراطيّة؟.

وطرح المسألة على هذا النحو يدلّ إلى بعض أوجه الاستثناء في العالم الإسلاميّ، حيث يصعب أن تكون العلمانيّة شعبيّة تؤكّد ذاتها بصناديق الاقتراع، تماماً كما لا يصعب أن تكون الديموقراطيّة شعبويّة تتوسّل صناديق الاقتراع حين يبدو ذلك مفيداً. وهذا هو السبب البعيد الذي جعل منصّة الدولة والجيش هي منصّة انطلاق الأتاتوركيّة الموصوفة بـ laquo;الفوقيّةraquo;، تماماً كما أعجز الإنجازات البورقيبيّة الكبيرة في تونس عن إدامة ذاتها بذاتها، فكان، من ثمّ، لجوؤها إلى إجراءات جذريّة وقسريّة مبالغ فيها، لا سيّما في عهد زين العابدين بن علي المتواصل.

وهذا الانتصاف الاستبداليّ بين العلمانيّة والديموقراطيّة إذ يشي باهتزاز نماذجنا عموماً، أكانت علمانيّة أم ديموقراطيّة، فإنّه لا يحمل على الاطمئنان حيال laquo;الديموقراطيّة وحدهاraquo; إلاّ بقدر ما حمل من الاطمئنان حيال laquo;العلمانيّة وحدهاraquo;.

ولا يؤتى بجديد إذ يقال إنّ هذين المفهومين الأساسيّين، الديموقراطيّة والعلمانيّة، إنّما ينتميان إلى أفق تاريخيّ حديث واحد تندمج فيه أيضاً مفاهيم الوطنيّة الدستوريّة وحريّة المرأة ومساواتها بالرجل.

وكان يمكن، جرياً على ما فعل رسميّون أميركيّون وأوروبيّون لا تخلو مواقفهم من سذاجة، إبداء الفرح الذي لا تحفّظ فيه حيال نتائج الاستفتاء التركي، وهو الذي نصر الديموقراطيّين على العلمانيّين. لكنّ مثل هذا الموقف يبقى من الصعب تبنّيه في ظلّ إصرار ما يقارب نصف الأتراك على اتّهام laquo;حزب العدالة والتنميةraquo; بـ laquo;أسلمةraquo; مجتمعهم. وغنيّ عن القول إنّ هذا الانبعاث المتعدّد الأوجه لـ laquo;العثمانيّة الجديدةraquo;، والذي ترعاه حكومة laquo;العدالة والتنميةraquo;، ليس ممّا تفرح له قلوب دعاة التقدّم والتنوير، بل أيضاً دعاة الدولة ndash; الأمّة التركيّة والإنجازات التي حقّقتها، بصفتها هذه، منذ مطالع القرن العشرين.

فالحالة النموذجيّة، غير المتحقّقة بالطبع، هي أن يفضي الانتصار الأخير لرجب طيّب أردوغان وحزبه إلى تعزيز الديموقراطيّة والعلمانيّة معاً! أمّا إحراز وحدة منهما على حساب الثانية فيهدّد بخلق مشاكل، على المدى الأبعد، تفوق المشاكل التي يحلّها.

ولا بأس بالتذكير بأنّ الانقلابات العسكريّة الثلاثة التي توالت على تركيا، أوائل الستينات وأوائل السبعينات ثمّ أوائل الثمانينات، لم تكن ردّاً على الإسلاميّين، لأنّ الإسلاميّين يومها لم يكونوا يشكّلون القوّة التي صاروا عليها في وقت لاحق. فالانقلابات المذكورة دلّت إلى أنّ نظريّة laquo;الديموقراطيّة فحسبraquo; تعاني، في المجتمع التركيّ، من اختلالات لا تقلّ عن الاختلالات التي تقيم في نظريّة laquo;العلمانيّة فحسبraquo;.

وعلى رغم الفارق الهائل والنوعيّ مع الوضع في العراق، يُخشى أن تذكّرنا نظريّة laquo;الديموقراطيّة فحسبraquo; بمثيلتها العراقيّة التي لازمت حرب 2003، بعيداً من تقدير المجتمع العراقيّ وطبيعته وانقساماته.

فكيف نحرز الاثنتين، في العراق وفي تركيا وفي عموم المنطقة...؟، هذا هو السؤال.