محمد الصاحي الزعابي


من قراءة الموقع الجغرافي والتاريخي لمنطقة الخليج العربي في الماضي والحاضر فإن أبناء الخليج يرتبطون بعلاقات وطيدة ويشتركون حول عوامل الوحدة والتعاون في مجالات عديدة ويعتصمون حول مصير واحد ويتعاضدون في السراء والضراء في مواجهة المخاطر المحدقة التي تتعرض لها منطقة الخليج العربي . وإن كان إنشاء مجلس التعاون الخليجي قد تأخر بالرغم من توافر العوامل والقواسم المشتركة والمشجعة لتأسيسه والمتمثلة في وحدة العقيدة الإسلامية السمحاء واللغة العربية والثقافة والعادات والتقاليد والروابط السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمصير المشترك، إلا أن منطقة الخليج تعرضت في فترة

من الزمن لنكسة من التخلف عن ركب التطور والحضارة بسبب الغزو الأجنبي والاستعمار الذي بث فيها مشاعر الفرقة والمنازعات القبلية وحرمها من نعمة التعليم والصحة ونشر فيها الفقر والأمراض والجهل .

وبالرغم من محاولات الاستعمار والغزو الأجنبي خلال الحقبة الماضية عزل منطقة الخليج العربي عن بقية الوطن العربي الكبير وعن ركب التطور والتقدم الحضاري حيث وضع المنطقة تحت احتلاله، ومع ذلك لم يستطع نزع روح التحرر أو كسر الإرادة لتقرير المصير ونيل دول منطقة الخليج العربي استقلالها وسيادتها .

انطلاقاً من القواسم والظروف المشتركة التي تتميز بها منطقة الخليج العربي وقوة الإرادة والعزيمة الصادقة لقادة هذه الدول والدعم الصادق لأبنائه في تفعيل تلك العوامل المشتركة واستثمارها في ابتغاء تحقيق الوحدة والتعاون من خلال بناء البيت الخليجي، فقد جاءت المبادرة المباركة والتي التقت حولها قلوب القادة في اتخاذ القرار الحكيم والرأي السديد في الاجتماع الأول الذي عقد في أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة في 25 26 مايو/ أيار 1981 والذي تمخض عنه انشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية .

وإلى جانب ذلك فقد تعاضدت الأيادي البيضاء لقادة دول المجلس لإرساء القواعد المباركة للبيت الخليجي على أسس ومبادئ وأهداف ورؤى ثاقبة وسامية وعلى استراتيجية واضحة وقوية تتناسب مع ثوابت التاريخ المجيد لهذه الدول واستشراف مستقبل نهضتها وحضارتها الزاهرة وتوفير وسائل الرخاء والرفاهية والعيش الرغد لأبناء مجلس التعاون الخليجي . بالإضافة إلى ذلك فقد أكد المجلس بوضوح في نظامه الأساسي على مواصلة دعمه ومساندته لجامعة الدول العربية ومنظمة الدول الإسلامية ومنظمة الأمم المتحدة بما يتوافق مع الأهداف والمبادئ الأساسية المنصوص عليها في المواثيق والقوانين الصادرة بشأنها وخاصة صيانة الأمن والسلام العالمي والسعي في تحقيق التقدم والتطور في كافة الميادين الحضارية والحفاظ على الحقوق والمقدرات الإنسانية .

ومن الجدير بالذكر أن مجلس التعاون منذ نشأته ووفقاً لمبادئه وأهدافه التي رسمها في نظامه الأساسي أكد بجلاء إبعاد التدخلات الأجنبية في منطقة الخليج والسعي لنزع فتيل الصراعات والحروب ووأد انتشارها وحصر مخاطرها من الاستفحال والتوسع بصورة أكبر لكي تنعم المنطقة بالأمن والاستقرار ولتكون واحة أمن وسلام ومحبة ووئام وتقدم وازدهار في كافة المجالات الإنسانية والحضارية .

ومن أهم الإنجازات العظيمة التي حرص عليها قادة المجلس منذ الخطوة الأولى الصمود في مواصلة تحقيق نعمة الأمن والاستقرار والتصدي للحرب الهوجاء بين الجارين المسلمين العراق وإيران والتي خلفت الخسائر والدمار في الأموال والأرواح، بالإضافة إلى الموقف الحاسم والشجاع في مواجهة الغزو الطائش لنظام صدام حسين وتحرير الكويت الشقيقة وذلك من خلال معالجة قادة المجلس بالحكمة والرأي الرشيد ذلك الغزو الغاشم والحرب الفاشلة لدولة الكويت الشقيقة وما نتج عن تلك الحرب من آثار وخيمة وخسائر عظيمة في الأموال والأرواح ودمار للمقدرات والبيئة وزعزعة الاستقرار والأمن في المنطقة والسلام العالمي .

وفي ذات السياق مجلس التعاون من خلال أمانته العامة وأجهزته الإدارية ولجانه المتخصصة حرص خلال ثلاثة عقود من عمره على بذل الجهود المتميزة لمواصلة ترسيخ مسيرته الخيرة والمباركة، وسعياً منه في استمرار دعم النشاطات الاقتصادية والاستثمارية وبذل المزيد من التكامل والتنسيق في الشؤون التعليمية والثقافية والاجتماعية والصحية والبيئية والزراعية والثروة النفطية والمعدنية والطاقة المستدامة وبما يحقق الآمال والطموح التي يتطلع إليها مواطنو دول المجلس .

وإذ يعقد المجلس الأعلى لقادة دول الخليج العربية اجتماعه في العاصمة أبوظبي يومي 6 و7 ديسمبر/ كانون الأول المقبل نود أن نذكر في هذه المناسبة وبالرغم من الجهود العظيمة التي بذلت وخاصة بشأن الملف الأمني إلا أنه مازالت أمامه بعض التحديات تحتاج إلى معالجة في إبداء الرأي الرشيد والقرارات الحكيمة والمساعي المتواصلة لإبعاد شبح الحروب والصراعات الطائفية والتدخلات الأجنبية حتى تنعم منطقة الخليج بالأمن والاستقرار والحد من الإنفاق على المعدات والتجهيزات العسكرية وتسخير المقدرات المالية والاقتصادية في التنمية البشرية والعمرانية ودعم الدراسات والبحوث التعليمية والصحية والخدمات الاجتماعية والإنسانية والمحافظة على الإنجازات والمكتسبات التي تحققت في دول المجلس . ومن الواضح للعيان أن تداعيات الحرب العراقية والاحتلال الأمريكي مازالت مخاطره بالمنطقة وبالعراق بصفة خاصة . فالعراق الشقيق مازال بحاجة إلى المزيد من الدعم والمساندة من قادة مجلس التعاون الخليجي حتى يتمكن من التعافي والتخلص من الفتن الطائفية والتدخلات الأجنبية وإزالة آثار الحرب والاحتلال الأمريكي والتوجه إلى إعادة البناء لكي يعود العراق عضواً قوياً وفاعلاً في مساندة القضايا العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء .

ومن التحديات المهمة التي تحتاج إلى المزيد من المساعي والدعم المتواصل من مجلس التعاون وبالتنسيق مع جامعة الدول العربية ومنظمة الدول الإسلامية ومنظمة الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الصمود في مواجهة التغلغل ldquo;الإسرائيليrdquo; وبذل المزيد من الجهود لوقف السياسة والمخططات الخطيرة التي يبذلها الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo; بقصد تمزيق وحدة الأمة العربية والإسلامية واضعاف قوتها ومكانتها وزرع الفتن والخلافات والصراعات السياسية والطائفية وصرف قادة الأمة العربية وشعوبها عن قضاياهم وبصفة خاصة عن قضيتهم العربية المركزية باستمرار الاحتلال والتوسع في الاستيطان واستمراره في تطبيق سياسة التهجير القسري وذلك من خلال ممارسة التعذيب والتجويع والإرهاب اليومي دون التمييز بين الأطفال والنساء والرجال المدنيين والمعتقلين في السجون ldquo;الإسرائيليةrdquo; ودون مراعاة لأبسط الحقوق الإنسانية التي نصت عليها الشرائع السماوية والمواثيق والقوانين والقرارات الدولية .

ومن المخططات التي يمارسها الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo; ابتغاء تمزيق وحدة الوطن العربي وقوته وزرع الفتن الطائفية ومواصلة اشعال فتيل الكراهية والخلافات بين كافة الطوائف في لبنان بسب إنشاء المحكمة الجنائية وقرارها الظني فضلاً عن شن الهجمات المفاجئة على سوريا ودعم خلايا الإرهاب وزعزعة الأمن والاستقرار في اليمن وتشجيع أهالي دارفور على الانفصال وخلق أزمة تقاسم المياه في القارة الإفريقية وخاصة بين الدول الواقعة قرب المنبع والدول الواقعة عند المصب من نهر النيل .

ومن المحاولات التي يسعى إليها الاحتلال ldquo;الإسرائيليrdquo; لصرف الأمة العربية عن قضيتها الفلسطينية والقدس الشريف هو دعم الارهاب وإشعال الحروب بين القبائل في اليمن الشقيق واستخدام الطرود المفخخة لتفجير طائرات الشحن الجوي لعرقلة التنمية الاقتصادية والحركة التجارية فيما بين الدول العربية وبقية دول العالم الأخرى . وانطلاقاً من ذلك فالمطلوب من دول مجلس التعاون الخليجي بذل المزيد من الجهود لمساعدة اليمن والسودان الشقيقين لنزع فتيل الحرب الأهلية ومكافحة خلايا الارهاب إذ لو تركت الأمور على وضعها الحالي دون الاسراع في تقديم المساعدة والتنسيق مع اليمن والسودان فإنها تتوسع لا سمح الله وتمتد آثارها الوخيمة إلى الدول العربية الأخرى .

ومما لا شك فيه أن مجلس التعاون الخليجي ومنذ نشأته منذ ثلاثة عقود أكد مراراً وتكراراً على ضرورة انهاء الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية وبالطرق السلمية والمساعي الدبلوماسية الرشيدة، وبالرغم من تبني المجلس قضية جزر الإمارات ومناقشتها في المحافل الإقليمية والدولية إلا أن تلك المحاولات والمناشدات لم تر الأذن الصاغية من الجمهورية الإسلامية الإيرانية والتي كان يحسن فيها الظن باعتبارها الدولة الجارة والمسلمة مستبشرين من نظامها الجديد بأن تسعى لاحلال السلام والأمن في منطقة الخليج العربي وبأن تتجاوب لإنهاء الاحتلال للجزر الإماراتية التي احتلتها إيران في ظل امبراطورية الشاه . ومع ذلك فإننا نناشد قادة مجلس التعاون الخليجي بالعمل على إحالة قضية الجزر الإماراتية إلى محكمة العدل الدولية مدعومة بالأدلة القاطعة التي تؤكد بوضوح عروبة الجزر وسيادة دولة الإمارات على جزرها التي احتلتها إيران في عصر الشاه وذلك من خلال الموقع الجغرافي للجزر والثوابت التاريخية وانتماء المواطنين العرب القاطنين في الجزر لسيادة دولة الإمارات بالإضافة إلى تبادل الوثائق الرسمية بين حكومتي إمارة رأس الخيمة وإمارة الشارقة ووزارة الخارجية البريطانية أثناء خضوع منطقة الخليج العربي للانتداب البريطاني .

ومن الأهمية بمكان التذكير بشأن مناقشة مواجهة التحديات الخاصة بالأمن القومي في إطار التكامل والتنسيق مع اللجان والأجهزة المختصة بمجلس التعاون الخليجي للحفاظ على نعمة الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي وذلك من خلال اتخاذ الإجراءات والوسائل المتطورة والاعتماد على الكوادر الوطنية المدربة للتصدي للجرائم التي ترتكب عبر الإنترنت وكذلك الاستعداد لمواجهة الحروب التي تستخدم فيها التكنولوجيا المتقدمة عبر الأقمار الفضائية وشبكة الإنترنت بدلاً من الاعتماد فحسب على الأجهزة والمعدات الأمنية والعسكرية التقليدية .

ومن الأهمية أيضا مع اقتراب اجتماع المجلس الأعلى لقادة مجلس التعاون الحديث عن دور الأمانة العامة وأجهزتها واللجان المتخصصة واللجان الاستشارية ومناقشة وتقديم البحوث والدراسات بشأن تطوير دور المجلس وتعديل نظامه الأساسي للنص على إنشاء برلمان يمثل دول المجلس، وليكون عوناً وداعماً بالرأي والمشورة والرقابة النيابية في دفع عجلة التقدم والارتقاء في دول مجلس التعاون وذلك من خلال المشاركة الشعبية لأبناء دول الخليج والتآزر مع القيادة الحكيمة لأصحاب الجلالة والسمو والحكومات الرشيدة لدول المجلس .

وبالرغم من وجود التنسيق والتشاور في الوقت الحاضر من خلال الاجتماعات التي تعقدها المجالس النيابية والاستشارية الخاصة بدول المجلس إلا أن دور البرلمان الخليجي سيكون له تمثيله الخاص عن طريق الأعضاء سواء كانوا منتخبين أو معينين يناقشون القضايا ومشروعات القوانين والاتفاقيات التي تهم دول الخليج بصفة عامة وليس كما هو الحال للمجالس النيابية والاستشارية التي تناقش القضايا والموضوعات ومشروعات القوانين والاتفاقيات الخاصة بكل دولة على انفراد .

وإلى جانب ذلك فإن النظام الأساسي لإنشاء مجلس التعاون الخليجي لم ينص على تنفيذ التوصيات أو القرارات أو البيانات التي تصدر عن المجالس النيابية والاستشارية حتى يكون لها الفاعلية في كافة دول مجلس التعاون، بالاضافة إلى ذلك النظر في إنشاء محكمة العدل الخليجية إذ يختلف نشاطها ومهامها عن هيئة تسوية المنازعات كما هو منصوص عليها في النظام الأساسي لإنشاء المجلس، حيث أن دور هيئة تسوية المنازعات إذا ما حدث، لا سمح الله أي خلاف يكون مقصوراً على إبداء المشورة والافتاء والتوصية غير الملزمة بخلاف المفهوم الشرعي والقانوني لدور الحكم الذي تصدره هيئة المحكمة القضائية إذ يؤخذ بصفة الإلزام والتطبيق وحسم الخلاف بالأسانيد والأدلة القاطعة بالعدل والإنصاف .

ومن الموضوعات المهمة التي لابد من مناقشتها وتفعيلها في إطار التكامل والتنسيق من خلال الأماننة العامة وأجهزتها واللجان المتخصصة والاستشارية على سبيل المثال مشكلة الخلل في التركيبة السكانية التي تعاني منها دول المجلس لما لها من آثار وخيمة في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والأمنية . إذ أن معالجة هجرة العمالة الأجنبية مطلب هام وذلك من خلال توفير أولوية فرص العمل لأبناء دول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية الأخرى وخاصة أن نسبة الخريجين والخريجات من الجامعات والكليات والمعاهد في تزايد مستمر وأن مثل هؤلاء يعانون من مشكلة البطالة ومنافسة الأيدي العاملة الأجنبية الرخيصة في سوق العمل في دول مجلس التعاون الخليجي . ومن المواضيع الجديرة بالمناقشة الزواج من الجنسيات الأجنبية وتزايد نسبة العنوسة بين فتيات دول المجلس إذ تتطلب مثل هذه الموضوعات مضاعفة الجهود من اللجان والجهات المتخصصة بمجلس التعاون لإيجاد الحلول المناسبة بشأنها . وإلى جانب ذلك فإن مشكلة ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومواد البناء ومصاريف استهلاك الطاقة بكافة أنواعها ونقص عدد المساكن لحديثي الزواج والأسر ذات الأفراد الكبيرة كل ذلك أصبح يشكل عبئاً ثقيلاً وغير متوازن مقارنة مع دخل الفرد المتواضع مما يتطلب تدخل الجهات المسؤولة لدراسة مثل تلك الموضوعات لرفع معاناة ارتفاع الأسعار وتحسين ظروف المعيشة اليومية .

ومن الموضوعات التي تحتاج أيضاً إلى مناقشة ودراسة مسألة الأمن الغذائي والمحافظة على البيئة البحرية والبرية وترشيد الاستهلاك لمياه الشرب ومياه الري الزراعي والاهتمام بالطاقة المستدامة ودعم مشاريع الإسكان لتوفير المساكن الملائمة للشباب ولما لها من آثار عظيمة في تشجيع الشباب على الزواج والحد من ظاهرة الطلاق وتوفير الرخاء والرفاهية والحياة الكريمة لأبناء دول مجلس التعاون .

وفي نفس السياق يتطلب التنسيق والتكامل من أجهزة مجلس التعاون ولجانه المتخصصة لغايات تطوير ودعم الخدمات الصحية الوقائية والعلاجية والارتقاء بالتنمية التعليمية في المراحل المدرسية والتعليم العالي في الجامعات والكليات والمعاهد المتخصصة والتنمية الاقتصادية وتنمية الموارد البشرية والخدمات الخاصة بشؤون الشباب حتى ينعم مواطنو دول المجلس بالخير والثروة التي حباها الله من فضله ونعمه وبفضل القيادة الحكيمة والرشيدة لأصحاب الجلالة والسمو لدول مجلس التعاون، حفظهم الله ورعاهم . ونسأل الله أن يسدد خطى قادتنا الكرام على طريق الخير والحق وبوركت أياديهم البيضاء والسخية وجهودهم ومساعيهم الخيرة للحفاظ على مسيرة التعاون وإرساء قواعد الشورى والمشاركة الشعبية ومواصلة توفير الخير والرخاء والحياة الكريمة وتحقيق الآمال والطموحات التي يتطلع إليها أبناء دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية .